قراءة في المناهج الغربية لتفسير التاريخ في القرن 19م

                       

       تمهيد:

      يتفق الباحثون على أهمية المنهج في البحث العلمي. لأن صحة وسلامة المنهج يؤدي إلى صحة وسلامة موضوع البحث المدروس ونتائجه.

      لأجل ذلك اهتم العلماء والباحثون في قضية المنهج العلمي لدراسة التاريخ، وجعلوا الحديث عنه مقدمة متعارف عليها، ومدخلًا إلى الأبحاث العلمية.  وإذا كان هؤلاء العلماء والباحثون اتفقوا على أن منهج البحث التاريخي هو طريقة جمع وتحليل الوثائق والمصادر التاريخية من خلال النقد والتحقيق. [1] إلا أنهم اختلفوا حول منهج التفسير، أو طريقة التفسير، ومن هنا تعددت مناهج تفسير التاريخ خلال القرنين السابقين؛ التاسع عشر والعشرون، و تباينت تباينًا كبيراً خاصة في أوروبا.

      ولهذا تأتي أهمية دراسة قضية المنهج العلمي. بل أن بعض الباحثين يعتبر أن "المنهج" هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم، لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث،  [2]ومنعًا للالتباس لابد من التوضيح والتفريق بين منهج البحث، ومنهج التفسير، وفلسفة التاريخ –أثناء هذه الدراسة- فالأول، هو وسيلة العمل و أداة وطريقة التنفيذ، وجمع المادة وتحليلها وتركيبها، والنقد والمقارنة، أما الثاني فهو المنهج الذي يتبعه الباحث لفهم، واستنطاق، وتفسير المادة التاريخية، أما فلسفة التاريخ فهي النتائج الفكرية ذات طابع التفسير الكلي، التي أخذ بها الباحث سواء بعد إنجاز بحثه، أو اعتنقها، بطريقة قبلية مسبقة. [3] وإن كان البعض يعتبر قضايا المنهج العلمي جزء من الفكر الفلسفي بشكل عام، إلا أننا نستطيع القول ان هذه الدراسة واسطة الاتصال بين حلقتين، هي: (منهج البحث، والنظرية الفلسفية)؛ أي حلقة مناهج التفسير.

      وتأتي أهمية القرن 19م أنه شهد عصر النهضة الصناعية والعلمية الكبرى في أوروبا، كمحصلة لحركة الاستعمار العالمية. كما شهد تغيرات سياسية واجتماعية هامة. على أن التحول الحقيقي كان في الفكر، والثقافة، والصراع الفكري الذي دار بين المثاليين والماديين، وبين الوضعيين والتاريخانيين، وفي اختلاف المناهج وتعددها، وما نتج عن هذا الصراع. كما سوف نرى في هذه الدراسة.

 

      أهداف البحث:

    يهدف البحث إلى معرفة التجربة الأوروبية في مجال مناهج تفسير التاريخ، التي ظهرت في القرن 19م، والكشف عن الفوارق بينها، وظروف نشأتها واستخداماتها. وهو قرن شهد ثراءً كبيراً في مجال النهضة العلمية في أوروبا، خاصة في مجال المناهج، كما شهد صراعًا واختلافًا بين المفكرين الأوروبيين حول فهم وتفسير التاريخ

 

      أهمية البحث:

      تكمن أهمية البحث أنه يكشف عن حقل معرفي هام في مجال الدراسات التاريخية، وهو "مناهج التفسير" التي تختلف عن منهج البحث، وعن نظريات فلسفة التاريخ. الشيء الذي سوف يساعد الباحثين في اختيار واستخدام هذه المناهج، مما يعزز من علمية الدراسات التاريخية، مع اعتراف الباحث أن كل منهج منها يستحق دراسة كاملة عنه، حيث لا زال الفكر التاريخي بحاجة إلى أمثال هذه الدراسات.

 

      الدراسات السابقة:

    للأسف لم يقف الباحث على دراسات سابقة في هذا الموضوع، سوى دراسة تقترب نوعًا منه، وهي دراسة لكاسيرر آرنست بعنوان (في المعرفة التاريخية). ولهذا لم تكن كافية، رغم أهميتها. إضافة إلى بعض الدراسات حول فلسفة التاريخ، على أن الحديث عن مناهج التفسير أتى عرضيًا ضمن الحديث على بعض النظريات الفلسفية.

        

      منهج البحث:

   يتبع البحث المنهج الوصفي التحليلي ضمن جمع مفرق، لغرض الوصول إلى تحقيق أهداف البحث السالفة الذكر.

 

     تاريخ ونظريات مناهج تفسير التاريخ:

     يعتبر بعض الباحثين أن المنهج العلمي هو أحد تراث العصور الوسطى. [4] إلا أننا سوف نبدأ في استعراضنا الوصفي لهذه الدراسة من العصر الحديث. وخاصة بعد ما سمى (عصر التنوير)، حيث علا شأن العلوم التجريبية وفلسفتها وهيمنتها على الحياة العلمية في أوروبا. [5] مما سبب في رد فعل بعض الفلاسفة على هذا التوجه، ومنهم هردر الذي حاول التفريق بين منهج يدرس الطبيعة، وآخر يدرس الإنسان وتاريخه.

 

       هردر: المنهج الذاتي (لا يفهم الروح إلا الروح):

      كان منهج جون هردر (1744-1803م) [6] لدراسة التاريخ، هو المنهج الذاتي، والفهم العاطفي للحياة الباطنية للآخرين، من خلال المنهج التحليلي، وذلك بناءً على نظرته للتاريخ والكون

      ينظر هردر إلى التاريخ الإنساني كما جاء في كتابه (من فلسفة التاريخ إلى الحضارة الإنسانية) أن التاريخ لا تتحكم فيه النزعة العملية الخاصة بإنجاز الأفعال، بل كإنسان ذي مشاعر. وعلى ذلك لم ينظر إلى مجموع أفعاله كما يفعل المؤرخون، بل إلى ديناميكية مشاعره. وجميع الأفعال الإنسانية السياسية، والفلسفية، والدينية، والفنية، لا تمثل إلا الجانب الخارجي من الإنسان.  [7]

      كما أن الإنسان ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالكون المادي المحيط به، كونه وضع على هيئة كائن حي يسمح بخلق كائنات حية عليا فيه، تنمو وتتطور في داخله، لتبلغ مبلغ النضج الكامل، أو أسمى مراتب الخلق. فالإنسان بهذا هو حلقة بين عالمين؛ العالم الطبيعي –الكون المادي– الذي نشأ منه، والعالم الروحي الذي يخرج إلى حيز الوجود المادي في هذا الهيكل الإنساني، لأن وجوده الروحي يتخذ شكل قوانين روحية تظهر آياتها على الأرض، والتاريخ: "مسرح يبين دور الله في رعاية الإنسان على الأرض، وكل شيء يجري في هذا المسرح لغاية ما؛ بالرغم من أننا لن نستطيع أن نرى الغاية النهائية. أنه مسرح تظهر فيه العناية الإلهية فقط، من خلال ثغرات وأجزاء متناثرة من المشاهد الفردية". [8] ولذلك فان هردر لا يرى في التاريخ مجرد المجرى الخارجي للأحداث، بل يسعى إلى رؤية روحه؛ الروح الكامنة خلف الأقنعة و الحجاب. وكل جزء من الأجزاء لا يعتبر جزء فحسب، بل أن الكل يحيا في بعضه البعض، ولهذا توصف فلسفة هردر أنه تفسير روحي للتاريخ، حيث لا يفهم الروح إلا الروحظ. [9] وبما أن الكون كائن حي، فالتاريخ هو أفعال هذا الكائن. ولذلك لا يمكن فهم روح الأمة وشخصيتها بمنهج العلوم الطبيعية، التي لا تبين سوى المظهر الخارجي للأحداث. أما روح التاريخ وباطنه فلا يمكن التعرف عليه، إلا من خلال الروح الداخلية للإنسان، التي تستطيع أن تكشف روح العصر. [10]

      كان هردر يشعر بأهمية نظرته الذاتية، إلى درجة أنه زها بتمكنه من قراءة التوراة، كما لم يقرأها أحد من قبل، فالتوراة بعد قراءته أصبحت كتابًا مقدسًا، كشف عنه بعد عدة قرون من الغموض كما يدعي.

      ويبدو المنهج الذاتي واضحًا في فكر هردر، عندما جعل من أوروبا مركز تاريخ العالم، وأعطى الجنس الأوربي أعلى مراتب التقدير في التاريخ الإنساني. كما أن نظريته تستند إلى أن الخصائص السيكولوجية المتوارثة في التكوين هي أساس الفوارق بين الأوضاع الاجتماعية، والسياسية للأجناس البشرية المختلفة.  [11] وهي نظرية بررت للتعصب القومي. [12] إلا أن بعض الباحثين يرون أن هردر أراد تأسيس المنهج العلمي لفلسفة التاريخ [13] .كما أن الكثير منهم يقرون بتأثيره الكبير على تاريخ فلسفة التاريخ وتطورها. [14] وتأثيره على الفلاسفة، أمثال هيجل ودلتاي. [15] وما نستطيع أن نقوله: أن فكره الفلسفي بلا شك كان له التأثير الأول في اتخاذه هذا المنهج.

      على أن بهذا الفكر والمنهج كان هردر يعتبر رائد، رفض فكر ما سمى بعصر التنوير [16] . الذي انقلب على الكنيسة والمسيحية. كذلك كان رائد فكر استقلال المنهج التاريخي، عن مناهج العلوم الطبيعية.  [17]

 

       رانكه: المنهج الموضوعي (وصف ما كان كما كان):

      يعتبر ليبولد فون رانكه1795-1886 [18] (رائد المنهج الوصفي الموضوعي للتاريخ، فهو وإن كان متأثراً في تفسير وفهم التاريخ إلى حد ما بفكر هردر، إلا أن منهجه كان مختلفًا تمامًا. وهو منهج "وصف ما كان كما كان"، والبدء بالبحث التاريخي دون أحكام مسبقة "الموضوعية الكافية"، وبالاستناد إلى مصادر معاصرة لحقبة موضوع الدراسة، مصراً على أنه ينبغي للمؤرخ ألا يضيف لمادته شيئًا بقصد زيادة سحرها الجمالي، أو سعيًا وراء إحداث تأثير بلاغي؛ أي كان منهجه المنهج الوصفي، والدعوة إلى الموضوعية التامة دون أي تأثير، أو تدخل من المؤرخ نفسه. أو الانحياز إلى أي طرف، أو الدفاع عن أي برامج دينيه أو قوميه أو سياسية، ووصف من يفعل ذلك بأنهم ليسوا مؤرخين، بل مجرد "كتاب نشرات". وبهذا قامت فكرة الموضوعية التاريخية عند رانكه على مثل هذا الفصل بين الذات، والموضوع، أو الشخصي والواقعي. محاولًا عدم التعبير عن الاهتمام بصوره ذاتية، أو شخصيه لكل الأحداث التاريخية، التي وصفها [19] . 

      كما كان رأيه أن التاريخ لا ينبغي أن يكون مصاغًا بطريقه توجيهية تربوية مباشرة، حيث يمكن أن تتحقق هذه الأهداف من خلال الوقائع المجردة والأفكار، ودون تدخل المؤرخ نفسه. [20] والجدير بالذكر أن الوصف كان من أهم مناهج المعرفة في نظرية المعرفة، بشكل عام منذ التاريخ القديم، وخاصة عند اليونان.

     وربما لا نستطيع فهم منهجه إلا من خلال قراءة فلسفته، فإنه وإن كان يعارض كل فلسفة تأمليه للتاريخ، فإنه كان يؤمن بالفهم الكلي لحركة التاريخ، وعالمية وكلية المتغيرات التاريخية. فالتاريخ لم يكن عنده مجرد سلسلة من الأحداث المنعزلة، بل كان أحداثًا محكمة، متبادلة التأثير، وصراعا محكمًا بين القوى الروحية، وكان لكل من هذه القوى معنى محدد عنده، وقد أسماها "أفكار الله".

      فالتاريخ لا يقدم مشهدًا لأحداث مجردة كما يبدو للنظرة الأولى، ولا رؤية للدول والشعوب القائمة بالغزو أو الهجوم، والتي يتلوا بعضها بعضًا، فهناك في الحقيقة قوى روحية تفيض بالحياة، وهي قوى خلاقة، إنها "الحياة" نفسها. وهناك طاقات أخلاقية نراها هي بدورها في التاريخ. ولا يمكن لهذه الطاقات أن تعرف، أو أن تفهم مجردة، بالرغم أننا نستطيع أن نراها وأن ندركها. ويستطيع أي شخص أن يدرب نفسه على الشعور بوجودها. إنها تنمو وتسيطر على العالم، وتظهر نفسها في كثير من الصور المتنوعة، كما أنها تتحدى بعضها البعض، ويحد بعضها البعض، ويتغلب بعضها على بعض. ويكمن السر الكامل لتاريخ العالم في تلاقي هذه القوى، وفي انتقالها، واستمرارها، وتلاشيها، وعودتها للحياة مرة ثانية. هذه الأشياء تعني أن هذه القوى تستطيع أن تحقق كمال أعظم. [21] ورغم أن معظم عمل رانكه والأكثر أهمية كان في تاريخ الكنيسة، [22] إلا أن المنهج الذي اتخذه عُد نموذجًا للمنهج التاريخي. [23]

      على أنه وجهت انتقادات عديدة إلى فكر ومنهج رانكة من بعض المعاصرين له، ومن تلاهم من المؤرخين، منها أنه حول التاريخ إلى سجل جاف فاقد لبعده الأدبي، حيث أصبح مجرد سجل للحقائق المؤيدة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع. كما أخُذ عليه انه كان متعصبًا للدولة البروسية، ومناهضًا لكل حركات التحرر التي قامت في أوروبا في عصره. ومن أبرز منتقديه لامبرخت، [24] ودروسن، [25] وياكوب بوركارت، [26] الذي كان تلميذاً لرانكه نفسه. [27]

 

      المنهج الجدلي:

     يعد من أهم وأشهر مناهج التفسير للتاريخ، برز في القرن التاسع عشر على يد هيجل (1770-1831)، [28]  رائد الفكر المثالي، [29] في أوروبا. ثم اخذ عنه هذا المنهج (كارل ماركس) أهم فيلسوف للفكر المادي أيضًا. وعلى ذلك فالمنهج الجدلي نموذج لمنهج تفسيري، يمكن أن تستند إليه نظريتان متضادتان تمامًا في تفسير التاريخ، وهما التفسيرين المثالي والمادي.

  والجدل Dialectic في معناه اليوناني يشير إلى تصادم الآراء المتقابلة، بقصد معرفة الحقيقة أو طريقة الإقناع. واستعمله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس Heraclites بمعنى الصراع، والتغير المستمر في الطبيعة. [30] واشتغل به بعض الفلاسفة الغربيين. [31] على أن هيجل طور هذا المعنى، فاعتبر الجدل عبارة عن القضية والنقيض لها، ثم مركبهما، وأنه قانون الوجود والطبيعة والفكر والمجتمع، وأن الجميع في حالة صيرورة وتغير وتحول دائم بحسب تركيب منطقه.   [32]

      تقوم نظرية هيجل في تفسير التاريخ على مبدأ "وحدة الوجود"، إذ لا موجود إلا للمطلق الواحد، ذو الوحدة المطلقة، التي لا تعتمد على شيء خارج عنها. وعلى ذلك لا توجد أي ثنائية بين عالم المثال وعالم الواقع، حيث الفكر والوجود وحدة مطلقة.

    والمطلق الذي هو روح العالم هو المسير الحقيقي لكل شيء، وحركة التاريخ ما هي إلا سعي الروح الكلية لتحقيق وعيها الذاتي بحريتها. والحرية هنا بمفهوم قدرتها على تحقيق كل شيء. وأسلوب المطلق لتحقيق ذلك هو المنهج الجدلي حيث الصيرورة تبدأ من القضية أو الموضوع، ثم نقيضه ثم المركب لهما. هذا المنطق هو الذي يحكم حركة التاريخ، وهو الذي يفسر كل شيء.

      والمثال التقليدي للجدل هو حبة القمح التي تنمو، فينبثق منها الساق، فتنتفي كبذرة وينمو القمح ويحمل السنابل، عندها يهلك الساق، وهذا هو نفي النفي، أو مركب النقيضين. على أن حبات القمح في السنابل تحمل خصائص البذرة الأولى وهكذا.

       وعلى ذلك فإن حركة التاريخ هي صراع الأضداد، حيث لا تكشف الروح عن نفسها إلا من خلال صراع. ومن ثم فإن الجدل هو سر حركة التاريخ. [33] ومذهب هيجل من التعقيد بحيث يحتاج إلى مزيد من الشرح، وقد ألتف حول النظرية الكثير من الأنصار، وحازت على الكثير من الدراسات والاهتمام، ومثلت قمة الفكر المثالي في أوروبا.

   ولا نعرف إذا كان هذا المنهج سبق النظرية والفكرة عند هيجل، أم أن النظرية هي التي صنعت هذا المنهج التفسيري. على أنه سرعان ما أخذ عنه هذا المنهج كارل ماركس، ليضع نظريته المادية في تفسير التاريخ. لكن ماركس وإنجلز أسقطا العمق والجوهر المثالي عن المنهج الجدلي، واعتبروا أن جدل هيجل كان واقفًا على رأسه وليس على قدميه بسبب فكره المثالي، ثم ألبسوا المنهج لباسًا ماديًا لتفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية على حد سواء. وهو الشيء الذي عده بعض المفكرين تشويهًا للهيجلية وسوء فهم لها. [34] ومع ذلك فإن ماركس وإنجلز اعترفا بالفضل لهيجل، حيث يشير إنجلز عن الجدل الهيجلي أنه عمل لم يضطلع به أحد منذ أرسطو سواه، بل أنه أعظم ما أنجزته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. [35]

      لقد أعجب ماركس وإنجلز بالمنهج الجدلي لأنهم رأوا فيه منهج يستطيع أن يفسر مجرى التطور والتغير المستمر في المجتمع وفي الطبيعة، كـ "حركة دائمة"، وذلك عكس المناهج الأخرى ذات النظرة الاستاتيكية الجامدة.   [36]

  ثم وضع ماركس قوانين تشكل منهجه في تفسير التاريخالقانون الأول، التغير من الكم إلى الكيف، سواء في عالم الطبيعة أو عالم الإنسان. والقانون الثاني، تداخل الأضداد وصراعها. والقانون الثالث، نفي النفي، وكلها قوانين تفسر حركة الطبيعة والمجتمع من منظور التفسير المادي. [37] وهكذا فالجدل منهج يفسر كل شيء-حتى الفكر-أنه يتطور من الأدنى إلى الأرقى، نتيجة التناقضات الداخلية التي تعمل فيه.

      وإذا كانت الفلسفة هي إبداع العقل البشري في الفهم، إلا أن هذا العقل يتطرف أحيانًا بعيداً في جانب محدد، ويغفل كل الجوانب الأخرى، وذلك كما فعل ماركس وإنجلز في تفسيرهما المادي للتاريخ، عندما وضعا العامل الاقتصادي والحاجة المادية للإنسان وصراع الطبقات، العامل الوحيد المفسر للتاريخ.

      ثم لم يلبث أن وصلت التأثيرات الفكرية الأوروبية إلى الساحة العربية. [38] فأخذ بعض الباحثين تطبيق المنهج الجدلي المادي في دراسة تاريخ الإسلام وفكره، وألبسوا نظرية صراع الطبقات على تفاصيل التاريخ العربي، فقالوا أن أبا ذر ومجموعة من الصحابة كانوا يساريين، ومعاوية وآخرون من التيار اليميني. أو تقسيم آخر؛ الأشاعرة والفقهاء كانوا رجعيين، بينما ابن رشد والمعتزلة تقدميين عقلانيينويرى أصحاب هذا المنهج أن الإسلام-فكراً وتاريخًا-ما هو إلا نتاج العلاقات الاقتصادية كحتمية تاريخية لا بديل عنها. وأنه انعكاس لتحولات أسلوب الإنتاج والتبادل داخل المجتمع العربي.  [39]

      على أنه يلاحظ أن الدعاة إلى هذا المنهج خرجوا برؤى متباينة، وتطبيقات مخالفة عن بعضهم البعض. الشيء الذي يصبغ الذاتية على أبحاثهم ودراساتهم ذات المنظور الماركسي للتاريخ الإسلامي.   [40]

 

       منهج همبولت (الوصف الخلاق):

      أصبح منهج رانكة من الناحية العملية مهيمنًا على الكثير من المؤرخين، [41] مثل همبولت،  [42] الذي يقول مع رانكه [43] أن مشكلة المؤرخ هي أن يذكر ما حدث فعلًا، فإن الوصف المباشر هو الطلب الأول والجوهري الذي يطلب منه، كما أنه أسمى ما يستطيع أن يحققه". وإذا أتبعنا هذه النظرة فيبدو أن ما يقوم به المؤرخ هو الاستيعاب فقط، وأن يكرر، لا أن يعمل عملًا مستقلًا جديدًا وخلاقًا.

      وبذلك يتفق مع رانكه في أن منهج المؤرخ هو الوصف، ولكنه يختلف حول أن مهمة المؤرخ في حاجة إلى تعاون دائم، مع الخيال الخلاق، الذي يستطيع وحده ربط الوقائع المنفصلة والموزعة في نطاق واسع وفي وحدة حقيقية. ولكن من الواجب ألا ينطلق خيال المؤرخ بعيدًا عن الأحداث الفعلية. ولكن التأمل والتجربة هي أوجه مختلفة للعقل المدرك للتاريخ.

       أما فلسفة همبولت فهي تشير إلى أن الظواهر الجزئية لوقائع التاريخ، تظهر دوامًا معينًا، ونظامًا وخضوعًا للقانون. والتاريخ بصرف النظر عما يتراءى من مظهره المتحرك، وتعدد نواحيه، يشبه "آله ميكانيكية" تخضع لقوانين ميتة، لا تتبدل، كما أنه يخضع لدفع قوى ميكانيكية. [44] ولكن بالمقابل رفض همبولت أي غائية أو هدف محدد سواء كان بشري أو سماوي، مدعيًا أن القوى الدافعة للتاريخ، هي بصفة رئيسية "القوى الإنتاجية" و"الحضارة" و"القصور الذاتي" للإنسان. ولذلك لا يعترف سوى بقوى الطبيعة الإنسانية فقط، ولا شيء سواهاورغم اتفاقه مع رانكه حول المنهج الوصفي، إلا أن الأخير اختلف عنه في نظرته للعوامل المحركة للتاريخ، فهي بالنسبة لهمبولت "قوى إنسانية"، بينما عند رانكه سر إلهي. ولعل هذا نموذج للاتفاق في المنهج، والاختلاف في الفكر الكلي.

 

      أوجست كونت (المنهج الوضعي):

   لكن سرعان ما ظهر اتجاه الاستخدام الوظيفي والغائي للمنهج التاريخي. وتمثل ذلك في أوجست كونت (1798 -1857) [45] الذي أعتبر نفسه مؤسس المذهب الوضعي، وعلم الاجتماع. [46] وملخص مذهبه الدعوة إلى استخدام مناهج العلوم الطبيعية في دراسة العلوم الإنسانية.

    والغاية من استخدام المنهج الوضعي، هو البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، ولا يمكن أن يقتصر على مجرد سرد الحوادث. وهدف هذا المنهج هو الوصول إلى التنبؤ من اجل السيطرة والتحكم. [47] والكشف عن فكرة التقدم في التاريخ واعتبار أن الإنسان كائن حي، مثل باقي الكائنات. ولذلك فهو خاضع للقوانين التي تتحكم في الطبيعة الحية. وكل ما قيل في طبيعة الإنسان الروحية، باعتبارها شيئًا لا يخضع للوجود الحيواني، وأحواله هو مجرد وهم. وعلى المنهج الوضعي نبذ ذلك. زاعمًا أنه اكتشف القانون العام للتطور، الذي تنشا منه فلسفة، أو منهج كلي حقيقي للتاريخ. كما أن التطور الاجتماعي الذي تصوره، ما هو إلا استمرار للتطور البيولوجي الحاصل في بقية الكائنات الحية.

  وبالتقسيم المنهجي الذي وضعه كونت جعل مهمة المؤرخين هي فقط توثيق الوقائع التاريخية، [48] والتأكد منها عن طريق النقد والتحليل، بينما مهمة الكشف عن قوانين حركة التاريخ، تركت لعلماء الاجتماع، حسب زعمه. [49]

   ونستطيع القول انه هيمن على القرن التاسع عشر نزعة تنكر الدين، وتؤمن بإمكانية تفسير كل الظواهر باختلاف أنواعها وتعددها من خلال المنهج التجريبي فقط، واستسلم مفكرو هذا العصر وفلاسفته لسيطرة نموذج فيزياء نيوتن القائم على التجربة، وتم تعميم أسس المنهج الوضعي لتشمل العلوم الإنسانية. وكان من نتائج ذلك، أن تم اختزال الظواهر الإنسانية في جوانبها الحسية والفيزيائية، وإسقاط كل ما هو غيبي من هذا الوجود، حتى أصبح لم يعد هناك فرق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية. كما تم تجريد العلم من كل قيمة أخلاقية، والتركيز بطرح سؤال الوسائل دون سؤال الأهداف والغايات، ذلك أن “الحالة الوضعية تقوم أساسا على اعتبار الظواهر خاضعة للقوانين، وأن مهمة البحث العلمي هي العمل على الكشف عن هذه القوانين؛ أي بيان شروط وجود الظواهر، لا أسبابها الأولى والأخيرة. إن المهم والأساسي–في نظر أوجست كونت – هو بيان كيف يحدث الشيء، لا البحث في لماذا حدث. [50] وبهذا تتحول أهداف الدراسات التاريخية من محاولة الإجابة على السؤال "لماذا"، إلى الإجابة على "كيف حدث". فالعلم حسب نظره دراسة العلاقات السببية للظواهر وليس دراسة الماهيات للظواهر ذاتها. وبهذا فقدت النزعة العلمية التي يدعيها كونت فهم غائية الوجود والتاريخ والإنسان. [51] وربما نستطيع القول إن الوضعية لم تكن سوى رد فعل على المثالية الألمانية ومنهجها التأملي، [52] وهو ما يؤكد التفسير الجدلي للتاريخ الفكري لأوروبا؛ إذ عندما يسود تيار فكري معين، لا يلبث أن ينشأ آخر مضاد له وهكذا.

 

        هنري بكل (المنهج الإحصائي لكشف قوانين التاريخ):

      كان المنهج الإحصائي هو المنهج العلمي الذي دعا إليه واتخذه المؤرخ الإنجليزي هنري توماس بكل (ت1862م) [53] ليثبت من خلال هذا المنهج أن لا شيء مصادفة في التاريخ الإنساني، وأن التاريخ يخضع لقوانين صارمة شبيهة بقوانين الطبيعة، موضحًا على سبيل المثال: أن عدد الجرائم التي تقترف كل عام تخضع لقوانين رياضية صارمة مثل أية ظاهره طبيعية.

     وكانت النتيجة هي الدمج بين التاريخ وعلم الطبيعة حسب رأي بعض الباحثين، حيث لا شيء يخلو من النظام الطبيعي وحتميته الصارمة. وأن الحرية المزعومة للإرادة الإنسانية هي "وهم". وبذلك فإن بكل أزال كل الفوارق بين العالم الاجتماعي وعالم الطبيعة، وبين الأخلاق وعلم الطبيعة. بل الوقوف موقف الوسط بين العالم الميتافيزيائي والعالم الفيزيائي، حيث يؤكد: "أن توطيد شروط هذا التحالف، يعني تحديد الأساس الذي يعتمد عليه كل التاريخ". [54]

      ولكنه يؤكد أن فكرة الرفاه البشري مرتبط بشكل أكبر بالمعرفة العقلية، فالظواهر الطبيعية والأخلاق، أقل تأثيرًا من تأثير المعرفة، وبهذا فإن التقدم مرتبط بالعبقريات الفردية إلى حد كبير. ولذلك تمسك بالقول ان معرفة قوانين العلاقات الاجتماعية هو قبل كل شيء يجب أن يكون موضوع البحث التاريخي. [55]

     ولا يمكن معرفة القوانين العقلية التي تنظم تقدم المجتمع إلا من خلال (المنهج الإحصائي)، المستند إلى مسح شامل للبيانات. ذلك لأن المناخ والتربة والغذاء والسمات الأساسية للطبيعة، هي الأسباب الأساسية للتقدم الثقافي كما يقول. [56]

 

    تاين (الوصف ثم التفسير):

     أما منهج الوصف ثم التفسير أو جمع الوثاق، ثم البحث بعد ذلك عن العلل، فقد كان المنهج الذي دعا إليه المؤرخ الفرنسي تاين (1828–1893م)، [57] الذي حاول التخلص من هيمنة الفكر المثالي الهيجلي. على أساس أن تلك الوقائع أو الظواهر تتحدث عن نفسها، وتفسر نفسها بنفسها، والتخلص من أي معايير أو أحكام مسبقة أو قبلية أو الشعور بأي تعاطف شخصي أو نفور؛ أي أن على المؤرخ الحياد الكامل أو عدم الانحياز. [58] والسعي إلى استخدام المناهج الوضعية لدراسة التاريخ. [59] ولأجل ذلك فهو يتفق مع "بكل" في استخراج القوانين المنظمة للتاريخ. [60]

  إلا أن الفارق بينه وبين كل من رانكه وهمبولت هو التبسيط الشديد لتفسير وقائع التاريخ، الذي اعترف به تاين نفسه، حيث يشير إلى أن: "الدافع الكامن وراء كل أبحاثه هو العثور على تعبير غير معقد يفسر الأحداث العظيمة التعقيد". [61] ولأجل ذلك كان تاين يصر أن منهجه هذا هو المنهج العلمي الصحيح لدراسة التاريخ. [62]

     ولأجل نقد وتقييم تاين، تساءل المؤرخ كاسيرر هل كانت التصورات أو التفسيرات التي قدمها تقوم بناء على المنهج الاستقرائي أم الاستنباطي؟ [63] ليكشف أنه لم يلتزم بحرفية منهجه المدعي-الاستقرائي، بل شابت تصوراته كثيرًا من التفاسير المستنبطة، وهو ما يسقط الموضوعية التي يدعيها ويناقض منهجه المزعوم. [64]

     على أية حال، ظل تاين يؤيد النظرة الفردية في التاريخ؛ أي أن الفرد هو بداية التاريخ وغايته، ومنبع كل معرفه حقيقة، حيث يقول" :لا يوجد أي شيء إلا من خلال الفرد، أنه الفرد نفسه الذي يجب أن يفهم (..) اتركوا إذن نظرية الدساتير، القوانين، والتفسير الآلي لتركيبها، ونظرية الدين وأنساقها، و بدلًا من هذه الأشياء، حاولوا مشاهدة الناس في مصانعهم ومكاتبهم وحقولهم، كما يعيشون تحت الشمس، فوق أرضهم و في بيوتهم (..)، انظروا إلى ما يأكلون، وما الذي يرتدون. فهذه الخطوة الأولى في التاريخ". [65]

 

      دروسن (تعدد المناهج):

      ثم لم يلبث بعد ذلك أن ظهر جيل جديد من المؤرخين، لا يقتنعون بمناهج رانكه ومعاصريه ومن تلاهم من المؤرخين. ولكن سيطرت عليهم التوجهات السياسية، فوضعوا منهجا جديدًا في الدراسة التاريخية وهو تحديد أهداف مسبقة للدراسة، محدده ومشخصه بدقة، وذلك لتحقيق الاغراض السياسية التي تقام لأجلها الدراسة التاريخية؛ أي الاستخدام السياسي للدراسات التاريخية. على أن ذلك لم يسبب سوى نزاع جديد، حول ما هي الأهداف السياسية الجديدة، التي يجب أن تحدد للدراسة التاريخية. [66]

   ومن هذه المدرسة الواقعية السياسية في ألمانيا أو مدرسة التاريخ السياسي يوهان دروسن (1808-1884م)، [67] الذي هاجم بكل في كتابة (تاريخ الحضارة في بريطانيا) بشكل تفصيلي، و هو لم ينتقد فقط جعل التاريخ علما بل هاجم كذلك كل المناهج المستخدمة آنذاك في دراسة التاريخ، فالتاريخ يثير أسئلة لا يستطيع -كما يقول- التأمل الفلسفي أو اللاهوتي الإجابة عليها، أو العلم التجريبي الذي يدرك عالم الظواهر من ناحية علاقاته الكمية فقط، أو المنهج الاستنباطي أو المنهج الاستقرائي، كذلك لا يمكن الإجابة على أسئلة التاريخ باستخدام اصطلاحات الطبيعة الرياضية، ويقول دروسن أن المناهج تختلف وفقا لموضوعاتها. ولذلك أصر على تأييد كثرة المناهج وتعددها في دراسة التاريخ، ولكن ركز أكثر على فكرة الفهم، وجعلها محورُا للمعرفة التاريخية. وفكرة الفهم هذه هي التي بدأ منها بعد ذلك دلتاي تشخيص فردية المعرفة التاريخية. كما سوف نرى. [68]

 

      منهج ثيودور مومسن:

     أما ثيودر مومسن (1817-1903م)، [69] فإنه وإن كان ينتمي إلى مدرسة التاريخ السياسي، إلا أنه أضاف إليها منهجًا مهمًا في دراسة التاريخ، وهو أنه لا يتأتى فهم النظام السياسي، والحياة السياسية في الدولة، إلا باستكمال دراسة جوانبها (التشريعية والقانونية)، ودراسة النقود، والمخطوطات القديمة. كما تميز منهجه لدراسة التاريخ، بضرورة التعاطف الوثيق مع الشخصية التاريخية المدروسة، حبًا أو كراهية، ولابد من إطلاق مشاعر وخيال المؤرخ أيضاً، ولأجل ذلك نظر مومسن إلى التاريخ ليس كعلم بل كفن، لا يمكن للباحث فيه إلا أن يمتلك مواهبه الخاصة بذلك.

     كما أعطى مومسن معرفة اللغات، وتحقيق النصوص والمخطوطات أولوية المنهج التاريخي، وذلك للوصول إلى ما أسماه روح التاريخ، وهو بهذا يقترب كثيراً من رانكه. ثم دعا إلى أسلوب منهجي جديد آنذاك، وهو العمل التعاوني، حيث رأى أن كاتبًا واحدًا بمفرده لن يستطيع الاضطلاع بأعباء البحث التاريخي، ولأجل ذلك من الضروري تنظيم العمل بين الموهوبين، على أن يأتي بعد ذلك دور المؤرخ الفذ بطابعه الفردي وعبقريته الخاصة به. [70]

 

        بين التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري:

      يستطيع باحث التاريخ اليوم أن يقف على جوانب نزاع طويل في القرن التاسع عشر، نشب بين أنصار التاريخ السياسي، والتوظيف السياسي للتاريخ، وأنصار التاريخ العام للحضارة ومنهم مؤرخو التاريخ الاقتصادي، وكان باحثو تاريخ الحضارة يستندون إلى حدٍ ما للأسس التي وضعها قبل ذلك فولتير Voltaire (1694-1778م)، [71] الذي أدرك قصور الدراسات التاريخية المقتصرة على السياسة وحدها، لذلك أشار إلى أن التاريخ لا يكون فقط سجلاً من المعارك والعمليات العسكرية، أو المؤامرات السياسية، ولكن عليه توضيح النشاط الفكري بأكمله، فإلى جانب الأحداث السياسية، عليه أن يرسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية لكل عصر، إضافة إلى عرض للحياة الأخلاقية بكاملها في ذلك العصر، [72] إذ أن التاريخ بالنسبة له هو قصة تقدم العقل البشري.

   ورغم ذلك ظل تاريخ الحضارة كموضوع للدراسات التاريخية، موضوع هجوم مستمر من كثير من المؤرخين العاملين في مجال الدراسات التاريخية في القرن التاسع عشر، من حيث المنهج والموضوع، وان بالإمكان للصور الحضارية أن تصاحب دراسة الأحداث السياسية، ولكن ليس أكثر من ذلك. [73]

     على أن أنصار التاريخ الحضاري لم يبذلوا جهداً في الدفاع عن منهجهم في دراسة التاريخ، ولذلك يذكر ابرهارت جوتهاين (1853-1923م)، تعذر فهم طبيعية الدولة وتطورها فهمًا كافيًا، بقصر النظر إليها من ناحية واحدة. ولابد من فهم العوامل الأخرى خاصة القانون والاقتصاد والدين والعلم والفن والآداب.

    ويلاحظ المستعرض لهذا النـزاع إلى أن المقارنة بين الاتجاهين في كتابه التاريخ، لم تكن في صالح مدرسة التاريخ الحضاري، سواء من ناحية المنهج أو المصادر المعتمدة للدراسات، فكتابه التاريخ السياسي تستند إلى تاريخ طويل من العمل العلمي في هذا المجال، وأسس منهجيه واضحة. بينما كتابه التاريخ الحضاري، والتاريخ الاقتصادي يفتقر إلى مثل هذا، وإلى المصادر الكلاسيكية المتخصصة في هذا المجال. [74]

    على أية حال لم تكن أوضاع دراسات التاريخ الحضاري ذات أتساق واحد في أوروبا، ففي بريطانيا استمر فكر فولتير عن معنى تاريخ الحضارة وقيمته، وهو أن المحك الحقيقي لتقدم الحضارة هو تقدم المنهج والفكر، فالتاريخ ليس مجرد سرد، بل ينبغي أن يشرح السياق الفكري بأكمله ورسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية وأن يقدم نظرة عامة للحياة الخلقية بأسرها في العصر. وفي فرنسا استخدمت جميع مناهج التحليل النفسي آنذاك لدراسة تاريخ حركة دينية هي اليانسينية، [75] وانتشارها، وفي دراسة تاريخ الفن. أما في ألمانيا، اتبع كل من رييل (1823-1897)، [76] وفرايتاج، [77] منهج مختلف في كتابه التاريخ الحضاري، حيث الاستغراق في التفاصيل الصغيرة، ورسم مشاهد الحياة اليومية، لتكون صورة تاريخية كبيرة عند تجميعها. [78]

 

     دلتاي الفهم وتكوين الجمل (مجمل الفترة التاريخية):

     حين كانت المدرسة الفرنسية الوضعية مثل أوجست كونت تحاول مماثلة منهج دراسة التاريخ مع مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية، وكانت الفلسفة الوضعية تهيمن على الجامعات الألمانية، حتى نهاية القرن التاسع عشر، ظهر ويلهلم دلتاي (1822-1911م)، [79] يكتب فلسفته ومنهجه في التاريخ، حيث دعا إلى وضع حدود فاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ولهذا رفض أطروحات الوضعيين الذين يريدون استخدام مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية في الدراسات الإنسانية؛ إذ أن هدف المناهج الطبيعية الوصول إلى قوانين عامة، بينما الدراسة التاريخية تهدف إلى فهم واقعة مفردة غير متكررة. ولهذا استخدم دلتاي مصطلح الفهم بدلًا عن مفهوم التفسير، حيث أن العلم يعلل بينما الدراسات الإنسانية تتفهم الحياة أو التجربة [80] العلم الطبيعي موضوعه الطبيعة بينما التاريخ موضوعه الإنسان، ولهذا لابد للمؤرخ أن يكون قادرًا على أن يفهم من الداخل الأسباب والأغراض والانفعالات للأشخاص موضوع الدراسة التاريخية. [81]

       كما يرتكز منهج دلتاي في دراسة التاريخ على ما أسماه تكوين الجمل Totalities، والجمل تعني هنا مجموع سمات عهد ما، ووصفه من جميع جوانبه. حيث لا يمكن أن نفهم المجتمع والتاريخ إلا من خلال هذا المنهج، فالوقائع التاريخية–حسب زعمه–لا يمكن أن تفهم من خلال قوانين تشبه قوانين الفيزياء، وبالتالي لا يمكن أن نستخدم مناهج الطبيعة الفيزيائية لدراسة الوقائع التاريخية .ولهذا يشير دلتاي إلى أن الإنسان لن يصل إلى الإحاطة بمجموع الكون، كما أنه لن يصل بقانون واحد أو وحيد إلى تلخيص صيرورة الحياة التي لا تنقطع ولا إلى التنبؤ بمستقبلها. ورغم أن دلتاي كان يردد باستمرار أن المحيط الطبيعي يكيف حياة الإنسان كما أن الطبيعة هي مسرح الوجود الإنساني، وشرطه، إلا أنه يقول إنها ليست شرحاً له، ولا تملك مفاتيحه، وعلى ذلك لأجل الوصول إلى الحقيقة العلمية، لابد من الاستناد إلى اليقين المباشر والتجربة، كما لا يمكن أن نفهم التاريخ، إلا بالنظريات، ولا النظريات إلا بالتاريخ.    

     والعلاقة بين النظرية والتاريخ هو أن نبين العلاقة بين المعرفة المنتظمة وبين الوصف التاريخي. [82]

 

       خاتمة (نظرة نقدية):

      يعتبر النقد وسيلة مهمة لتطوير مناهجنا العلمية وأدواتنا المعرفية، ولا يقصد بالنقد هنا مجرد إظهار للعيوب، ولكن كما يقول فيلسوف المنهج العلمي في أوروبا كارل بوبر: "يتوقف نمو المعرفة خصوصًا "العلمية"، [83] على التعلم من أخطائنا". ويقول أيضًا" :منهج العلم هو منهج المناقشة النقدية". [84] فالنقد هو أحد أدوات المنهج العلمي للتطوير، والإصلاح، والتقدم العلمي.

      كانت البداية لظهور المناهج الغربية، هو الانقلاب على الدين والكنيسة، [85] لذلك ظل الكثير منها خلال القرون التالية مجرد تراث لهذا الارتداد، مع الاستمرار في محاولة تجريد العلم من أي صفة إيمانية، مما جعله بطبيعة الحال في حالة تضاد مع المؤمنون، فتراوح المنهج بين اللادينية والفكر اللاهوتي المسيحي، الذي لم يبتعد عن فكرة المخلص للسيد المسيح، في حركة جدلية استمرت حتى القرن العشرين، بظهور نظرية أرنولد توينبي في التاريخ.

       تعددت المناهج تعددًا واضحًا، كما رأينا، وكانت التأثرات متبادلة بين المنهج والفكر التاريخي نفسه، فتارة كان يؤثر المنهج بطبيعة الحال على نتائج الفكر الفلسفي، وتارة أخرى كان الفكر الفلسفي المسبق–القبلي–هو من يحدد المنهج والأسلوب

      ولقد بذل العلماء جهود كبيرة للوصول إلى منهج معرفي يحقق أعلى درجات الدقة ومعرفة الحقيقة، والاستفادة من التاريخ. إلا أن المنهج الذاتي يكاد يفقد علميته وأمانته، بتدخل الباحث وشخصيته دون قيد، مما يجعله عرضه للأهواء. أما ما يسمى بـ "المنهج الموضوعي"، لا يصل بالباحث إلى نتيجة، سوى وصف ما كان كما كان، وهو مالا يتحقق إلا نسبيًا. وبالتالي لا يحقق محاور العلم الأربعة (الوصف، التفسير، التنبؤ، والسيطرة)، كما أنه يجعل من المؤرخ مجرد عامل أرشيف –إذا نجح في وصف ما كان كما كان–أو مجرد موثق، فيفقد علم التاريخ بهذا صفته الإيجابية، والقدرة على الاستفادة منه لفهم الحاضر، ومعرفة توجهات المستقبل.

      وكانت نظرية النسبية لإينشتاين أثبتت أن الذات العارفة هي طرف في معادلة الطبيعة إذ أن موقع الشخص وسرعته معينات أساسية في المعادلة الرياضية في تفسير عمليات الكون. [86] وبهذا يسقط وهم الموضوعية سقوطاً لا رجعة عنه. فمكان وزمان الباحث التاريخي–كما ثبت علميا–إضافة إلى خلفياته الفكرية والنفسية، يحددان اتجاهات كتاباته. وهو الشيء-على سبيل المثال-الذي تنبه له ادوارد سعيد في دراسته للاستشراق ومحاولات الباحث الغربي دراسة الشرق. [87] وأيضًا مما يمكن أن يؤخذ على هذا المنهج هو تركيزه على الوسيلة وإغفال الغاية أو النتيجة النهائية، أي التركيز على دراسة الجزئيات دون الخروج إلى مفهوم كلي، أو صياغات كلية تساعد على فهم وتفسير السياق العام للتاريخ الإنساني. فهو كما اسماه كولنجوود: "التاريخ الذي يقوم على طريقة جمع المقتطفات". [88]

    أما أسطورة المنهج الاستقرائي أو منهج الملاحظة، الذي لا يسترشد بمقولة استنباطية أو لا يسبقه فرض معين، فقد أسقطها ثلاثة من كبار علماء الغرب أنفسهم، كارل بوبر واينشتاين وتشارلز دارون، في دراسة تفصيلية لكارل بوبر لا حاجة لنا لاستعراضها هنا سوى القول: أن الاستقراء دون أي فكرة مسبقة هو مجرد وهم. [89]

     وفي كل الأحوال، كانت جهود علماء الغرب في القرن 19 حلقة هامة من حلقات تطور المناهج العلمية، لدراسة التاريخ وما وصلت إليه في القرن العشرين.

 

 

 

المصادر والحواشي:

[1]. كولنجوود، ر. ج: فكرة التاريخ، ت: محمد بكير خليل، القاهرة 1968، ص 42-43؛ أحمد قائد الصايدي: منهج البحث التاريخي، صنعاء 1999م، ص27. وللمزيد عن منهج البحث التاريخي، أنظر أيضًا؛ لانجلوا وسينوبوس: المدخل إلى الدراسات التاريخية، في كتاب النقد التاريخي، ت: عبد الرحمن بدوي، الكويت 1977م. ويعرف البحث العلمي أنه حزمة من الطرائق والخطوات المنظمة والمتكاملة، التي تستخدم في تحليل وفحص المعلومات القديمة، بهدف الوصول إلى نتائج جديدة، وهذه الطرائق تختلف باختلاف أهداف البحث العلمي ووظائفه وخصائصه وأساليبه. وفي تعريف آخر إنه: "عملية فكرية منظمة يقوم بها شخص يسمى (الباحث) من أجل تقصي الحقائق في شأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى (موضوع البحث)، بإتباع طريقة علمية منظمة تسمى (منهج البحث)؛ بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشكلات المماثلة تسمى (نتائج البحث)". أنظر؛ (محمد مسعد ياقوت: البحث العلمي العربي: معوقات وتحديات، مجلة الجندول (الكترونية)، السنة الثالثة: العدد 24 سبتمبر 2005م. WWW.ULUMINSANIA.NET ). وكان المسلمون القدامى اتبعوا أسلوب التكلم عن مناهجهم في مقدمات كتبهم، أنظر على سبيل المثال: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي (ت505هـ): الاقتصاد في الاعتقاد. [ب. د]، ص 5. بل أن الأمام السخاوي (771هـ) وضع منهجية دقيقة لكتابة التاريخ قبل الأوروبيين بمئات السنيين. أنظر؛ (طبقات الشافعية الكبرى. [ب. د]، ج 2، ص 16). والنهج لغةً: الطريق، نهج: بين واضح. والنهج الطريق المستقيم. وفي حديث العباس: لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة، أي واضحة بينة. ونهجت الطريق سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان أي يسلك مسلكه). ابن منظور الإفريقي، جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711هـ/ 1311م): لسان العرب. [ب. د]، مادة نهج) والمنهج في أعم معانيه، وسيلة لتحقيق هدف وطريقة محددة لتنظيم نشاط معين (روزنتال وآخرون: الموسوعة الفلسفية، ت: سمير كرم، بيروت 1985، ص 502).

[2]. أحمد قائد الصايدي: منهج البحث، ص 29.

[3]. يستخدم المؤرخ الفلسفة لفهم و تفسير أحداث التاريخ ووقائعه، بينما يستخدم الفيلسوف التاريخ لتأكيد أو نفي نظرياته الفلسفية.

[4]. كانتور، نورمان ف: التاريخ الوسيط (قصة حضارة): البداية والنهاية، ت: قاسم عبده قاسم. [ب. د] القاهرة [ب. ت]، ص 17 

[5]. يذكر أنصار العلم التجريبي أنه يمتاز بعدة مميزات منها أنه يولد اليقين التام ، ومنها أنه يبرهن على حقائق لا يمكن الوصول إليها بغير طريق التجربة، ومنها أنه أقدر على اكتناه أسرار الطبيعة. أنظر؛ (عبد الرحمن بدوي: فلسفة العصور الوسطى، القاهرة 1979م، ص يج).

[6]. هردر: فيلسوف ورجل دين وشاعر ألماني. للمزيد انظر؛ (Herder, J. G, Another Philosophy of History and Selected Political Writings, Transluted Evrigenis, I. D. and Pellerin, D, Indianapolis 2004, pp. ix ff.)

[7]. كاسيرر، آرنست: في المعرفة التاريخية، ت: أحمد حمدي محمود، القاهرة 1997، ص 8 وما بعدها، بتصرّف؛ Hamilton, Paul, Historicism, London 1996, pp. 41 ff

[8]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 11؛ Leventha, R S. The Disciplines of Interpretation: Lessing, Herder, Berlin 1994, .p.164

[9]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 14.

[10]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، الاسكندرية 1975م، ص 29.

[11]. أختلف علماء النفس في العوامل المؤثرة والدافعة للسلوك الإنساني، هل هي البيئة والظروف المحيطة، أم العامل الوراثي، أو هي عوامل متداخلة بينهم تختلف بحسب ظروفها، أنظر؛ (سايمنتن، دين كيث: العبقرية والإبداع والقيادة، ت: شاكر عبد الحميد، الكويت 1993، ص 49-وما بعدها، بتصرّف).

[12]. كولونجوود: فكرة التاريخ، ص 171-وما بعدها، بتصرّف.

[13]. Pickering, M, Auguste comte: An Intellectual Biography, Cambridge, 1993, p 279 

[14]. The Dictionary of the History of Ideas, Virginia, 2003, Vol. 3, p305

[15]. Forster, M, "Johann Gottfried von Herder", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (winter 2001 Edition), Edward N. Zalta (ed.), http://plato.stanford.edu/archives/win2001/entries/herder/. سيأتي التعريف بهيجل ودلتاي لاحقًا.

[16]. كان أيضًا من منتقدي حركة التنوير، رواد الحركة الرومانتيكية الذي يعتبر هردر واحدًا منهم. حيث هاجموا تقديس العقل الطاغي، وقالوا انه منحط، لأن دوافعه كذلك، إذ يتحول إلى مجرد أداة لتحقيق الشهوات المنحرفة. وأن الأساس في الإنسان هو الأخلاق والقيم، الذي لا نفع للعقل دونهما. أنظر؛ (أحمد محمود صبحي؛ وصفا عبد السلام جعفر: في فلسفة الحضارة، بيروت 1999م، ص 172-181، بتصرّف).

[17]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، 26-وما بعدها، بتصرّف.

[18]. رانكهاشهر المؤرخين الألمان في القرن التسع عشر الميلادي. ويعتبره البعض مؤسس المنهج العلمي للتاريخ. ألف عدة كتب منها تاريخ الأمم اللاتينية والتوتونية. وفي هذه المؤلفات استخدم مصادر كانت تعد جديدة آنذاك مثل: المذكرات والمفكرات والرسائل والاستعانة بشهود عيان. (Krieger L, Ranke: The meaning of history, Chicago 1977).

[19]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23. عن الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية، أنظر؛ (عبد المالك التميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة. عالم الفكر، العدد 4، مج 29، الكويت إبريل-يونيو 2000م.

[20]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23؛ أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 35.  يعتبر التوجيه التربوي أحد أهم أهداف دراسة التاريخ، وأجل فوائده وأسماها. أنظر؛ (أحمد قائد الصايدي: مناهج البحث، ص 33-34).

[21]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 25. أنظر على سبيل المثال: Ranke, L.V., The Ecclesiastical and Political History of the Popes of Rome :During the Sixteenth and Seventeenth centuries, Translated from the Germany by Austin, S., in two volumes, Oxford,1841.

[22]. amron, E., Interpreting Christian History: the Challenge of the Churches past, Oxford, 2005, p153.

[23]. .Hughes, M, Fifty Key Thinkers on History, London, 2000, p 260

[24] .لامبرخت: مؤرخ ألماني وأستاذ جامعي له من الدراسات: تقدم معايير التطور التاريخي والغاية القديمة والحديثة للمعرفة التاريخية. ومنهج تاريخ الحضارة (للمزيد أنظر: كاسيرر: المعرفة التاريخية، 127 حاشية 2، 3، 4، 5، 6؛  Chickering R, Karl Lamprecht: a German academic life (1856-1915), New Jersey 1993.

[25]. ستأتي الدراسة عنه لاحقًا.

[26]. ياكوب بوركار:مؤرخ سويسري اختص بتاريخ الفن والحضارة، من مؤلفاته: (تأملات في تاريخ العالم)، و(حضارة النهضة في إيطاليا)، و(التاريخ الحضاري لليونان)،و كان مذهبه هو الحدس والخيال والتأمل في كتابه التاريخ أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125-126، حاشية 12-15؛ مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة (من ديكارت إلى هيوم)، الاسكندرية 2020م، ص 198)

[27]. ويكيبيديا، ليوبولد فون رانكه.

[28]. هيجلولد في 1787 في مدينة شتتيجرت الألمانية، درس الفلسفة واللاهوت ثم ركز دراسته أكثر في أعلام التصوف الألمان، عمل مدرسًا خصوصيًا، ثم مدرسًا في جامعة ييل، ثم في جامعة هيدلبرج وجامعة برلين، يعد أعظم الفلاسفة الألمان في عصره. (عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، بيروت 1984م، ج 2، ص 574 وما بعدها، بتصرّف).

[29]. المثالية  Idealismمن المثال وتعني في الإغريقية الصورة أو الفكرة، والفلسفة المثالية هي التي تقول أن أصل الوجود هو الفكر أو العقل أو الوعي، والمادة هي الثانوية. بينما الفلسفة المادية تقول إن المادة هي أصل الوجود، وأن الفكر أو الوعي هو انعكاس لها. (عبد المنعم حفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة 2000م، ص723-739، بتصرّف).

[30]. جميل صليبيا: المعجم الفلسفي. [ب. د] بيروت، ج 2، ص 310.

[31]. أنظر على سبيل المثال؛ ديورانت، ويل: أبطال من التاريخ، ت: سامي الكعكي وسمير كرم، بيروت 2001 ،ص227؛ سعيد عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة 1986م، ج 2، ص 371.

[32]. عبد المنعم حفني: المعجم الشامل ،249.أنظر على سبيل المثال: Hegel, G. W. F, The Philosophy Of History, Translated by J. Sibree, Kitchener 2001, pp 73, 79, 458

[33]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 209 وما بعدها، بتصرّف؛ رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، القاهرة 2000م، ص151 وما بعدها، بتصرّف؛ عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ص 2/ 588 وما بعدها، بتصرّف. أنظر أيضًا؛ إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، بيروت 1982م.

[34]. أنظر؛ عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/ 575 وما بعدها، بتصرّف.

[35]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، ص 222.

[36]. المرجع نفسه، ص 223.

[37]. رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، ص 170-172.

[38]. يعتبر البعض الجامعة والمدرسة الحديثة بنظامها القائم جزء من التراث الاستعماري للمنطقة العربية، حيث الاهتمام والتركيز فقط على العقل وإغفال الجانب الروحي والقلبي والسلوكي ومتطلبات النمو الوجداني للطالب، بعكس المدرسة في التاريخ الإسلامي حيث الاهتمام المتوازي بنمو العقل وبناء الروح، أو علوم العقل و تزكية النفس، أو القيم والتطبيق. أنظر على سبيل المثال؛ (محمد حسين الصافي: علماء التزكية ودورهم العلمي والدعوي في عهد الدولة الرسولية. مجلة الإكليل، العددان 30-36، يناير-يونيو 2010م، صنعاء، ص 43-44).

[39]. شاكير احمد السحمودي: مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث، جدة 2010م، ص 41-44.

[40]. المرجع نفسه، ص 44 وما بعدها، بتصرّف.

[41]. تومسون، كينيث: قادة الفكر الدولي في القرن العشرين، ت: حسين فوزي النجار. [ب. د]، القاهرة [ب. ت]، ص 4 وما بعدها، بتصرّف.

[42]. همبولت مؤرخ ألماني، له العديد من الدراسات منها: (مهمة الكتاب التاريخي)، و(تدهور الدولة الحرة اليونانية وسقوطها)، و(مشروع العلم الأنثروبولوجي المقارن)، و(تأملات حول تاريخ العالم). أنظر؛ (كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 121-122، حاشية 31، 36، 39، 41).

[43]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 29.

[44]. المرجع نفسه، ص 31-32.

[45]. اوجست كونتعلم اجتماع وفيلسوف اجتماعي، مؤسس الفلسفة الوضعية القائلة "لا سبيل إلى المعرفة إلا بالحواس والخبرة". (للمزيد أنظر؛ ويكيبيديا).

[46]. الفلسفة الوضعيةتعمى لدى كونت تعني الواقعي، والنسبي، والمعطى المباشر من التجربة. ويمكن تعريف المذهب الوضعي بأنه الفلسفة التي تعمل ضمن فلسفة العلوم الطبيعية؛ الكشف عن القوانين، والداعية إلى استخدام المناهج التجريبية في العلوم الإنسانية لتحقيق المعرفة العلمية. (عبد المنعم الحفني: المعجم الشامل، ص 943-944؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 220).

[47]. محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ج1. [ب. د] بيروت، ص 89.

[48]. حدد كونت لهذا العلم أربعة مناهج أساسية للبحث والمعرفة العلمية الوضعية، وهي: (الملاحظة، والتجربة، والمنهج المقارن، والمنهج التاريخي). والأخير حسب نظره هو أفضل وسائل البحث. (محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ص 89).

[49]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 35-36؛ ويد جيري: المذاهب، ص 26-265 ؛ كولونجوود: فكرة، ص 232 ؛ 236.  أنظر؛ أيضًا: Lewes, G H, The Biographical History of philosophy from It Origin Greece Down to the Present Day, New York,1857,pp776-784. لعل أبرز من استخدم المنهج المقارن هو الإنجليزي أرنولد توينبي، مع استخدام منهج آخر بجواره، وهو منهج دراسة العلاقة أو الاتصال بين الحضارات. وبموجب ذلك توصل إلى نظريته الفلسفية للتاريخ (التحدي والاستجابة). ولا ريب أنه تأثر في موضوع المنهج بمن سبقوه، خاصة أسوالد شبنغلر. (أنظر؛ توينبي، أرنولد: الحضارة في الميزان، ت: أمين محمود الشريف، دمشق 2006م، ص 216-217).

[50]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3. 20/12/2008.

[51]. الطيب بو عزة: الدين من المنظور الفلسفي الغربي، الفلسفة الوضعية نموذجًا، مجلة التسامح، العدد (26). مسقط 2009م، ص 62 وما بعدها، بتصرّف.

[52]. باسكيز، أضولفو: البنيوية والتاريخ، ت: مصطفى المسناوي، بيروت 1981م، ص10.

[53]. هنري توماس بكل: مؤرخ انجليزي، أشتهر بكتابه (تاريخ الحضارة في انجلترا). (أنظر؛ Wikipedia, Henry Thomas Buckle).

[54]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 36-37؛ ويدجيري: المذاهب، ص 268 وما بعدها، بتصرّف؛ كولنجوود: فكرة، ص 261.  Wikipedia, Henry Thomas Bukle.

[55]. ويدجيري: المذاهب، 268-وما بعدها؛ كولنجوود: فكرة، ص 261؛ Buckle, H. T, History of Civilization in England, .Oxford, 1858, p267 ff

[56]. لم تكن الغاية من دراسة التاريخ معرفة القوانين منهج سائد عند كل المؤرخين. فعلى سبيل المثال يشدد لانجلويس (ت 1929م) انه ليس على المؤرخ صياغة قوانين عامة، إذ الهدف هو فقط توضيح الحقيقة، فالتاريخ ليس علم ملاحظة بل هو علم كيفية معرفة ماذا حدث في الماضي من خلال المصادر غير المكتملة المتوفرة للمؤرخ. (Britannica, Historiography) .

[57]. تاين مؤرخ وفيلسوف وناقد فرنسي له العديد من المؤلفات مثل، فلسفة الفن وتاريخ الأدب الإنجليزي: ومقدمة التاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 123. حاشية 8 ،10، 15، Hippolyte Taine, Oxford 1972 L, Weinstein).

[58]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 37، 38. أصبح بعد ذلك الوصف، ثم التفسير، ثم التنبؤ، ثم السيطرة هي محاور العلم الأربعة المفترض توفرها في أي علم. إلا أن بعض العلوم لا تكتمل فيها هذه الشروط، مثل: علم الفلك أو علم الجيولوجيا، ولذلك يأتي السؤال هل التاريخ علم يحقق محاور العلم الأربعة؟ (انظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين، عالم المعرفة، الكويت ديسمبر 2000، ص 368).

[59]. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، بيروت 1984م، ج1، ص433.

[60]. أحمد محمود بدر: تفسير التاريخ من الفترة الكلاسيكية إلى الفترة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، العدد 4، مج 29، أبريل يونيو 2001، الكويت، ص27.

[61]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 38.

[62]. Mansfield, E, Art History and Its Institutions, London, 2002, p93

[63]. المنهج الاستقرائييبدأ بدراسة الجزئيات، ليصل منها إلى قوانين عامة أو صيغ عامة، ويعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة. وفي العلوم التطبيقية تكون الملاحظة خاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة، وذلك عكس المنهج الاستنباطي، حيث البدء بفرضية عامة، ثم محاولة اثباتها. أنظر؛ (محمد زيان عمر: البحث العلمي، مناهجه وتقنياته، القاهرة 2002، ص 48-49).

[64]. المعرفة التاريخية، ص 39 و ما بعدها. إذ يدعي الوضعيين أن الموضوعية في المنهج الاستقرائي، ويهاجمون المنهج الاستنباطي.

[65]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-وما بعدها.

[66]. المرجع نفسه، ص 46، 47.

[67]. دروسنمؤرخ وأستاذ جامعي ألماني له العديد من المؤلفات، منها: خلاصة التاريخ المنشور سنة 1864 (انظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 47، كولنجوود: فكرة، ص 295 ، 296 Droysen – Wikipedia). 

[68]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-48.

[69]. مومسنمؤرخ ألماني، حاصل على جائزة نوبل في الأدب، عمل أستاذاً للتاريخ الروماني في جامعة برلين. له عدة مؤلفات منها: نظام التربيونات الرومانية في النظام الإداري (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 124. حاشية 18،9؛ Wikipeia,theoodr mommsen).

[70]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 49-وما بعدها.

[71]. فولتيركاتب فرنسي اشتهر بعدائه للكنيسة والدين، أنظر؛ (Morley, John, Voltaire, and London 1923).

[72]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 55.

[73]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 6. من هؤلاء على سبيل المثال ديترشي شافر Schaefer D في كتابه: المهمة الحقيقية للتاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125، 46. حاشية رقم 2).

[74]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 57-58.

[75]. اليانسينيةنسبة إلى كورنيل يانسين (1585-1638)، رجل دين هولندي، أسس حركة دينية ضمن الفكر الكاثوليكي، نشطت ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ارتبطت الحركة بدير بورت رويال، ثم أصدرت بابوية روما عدة إدانات لها في عهد كل من البابا انسونت السابع وكليمنت الحادي عشر، متهمة الحركة بالزندقة (للمزيد أنظر؛ Doyle, W .,Jansenism, Sydney 2000).

[76]. رييل، وليم هنري: مؤرخ وصحفي ألماني من مؤلفاته: التأريخ الطبيعي للشعب الألماني (أنظر؛ Lehmann, H. and Melton, J. V. H.,  Paths of Continuity: Central European Historiography from the 1930s to the 1950s, Cambridge 2003, pp281 ff).

[77]. فرايتاج، جوستاف: أديب وسياسي ألماني له قصص تاريخية لشخصيات شعبية ( للمزيد عنه أنظر؛ Warner, C. D, A Library of the World’s Best Literature – Ancient and Modern, London 2008,Vol.xv,pp6011 ff).

[78]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 58-وما بعدها، بتصرّف.

[79]. دلتايفيلسوف ألماني ومؤرخ عمل مع آخرين على شق منهج جديد للعلوم الاجتماعية والإنسانية، مختلف عن منهج العلوم الطبيعية (أنظر؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، تحرير: مارك ر. بوبر، ترجمة: يمنى طريف الخولي، الكويت 2993، ص 292 حاشية 14ت، ويدجيري: المذاهب، 314).

[80]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3.20/12/2008. Hamilton, Historicism, pp70 ff                                                                           

[81]. عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/161.

[82]. آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية (حث في النظرية الألمانية للتاريخ)، ت: حافظ الجمالي، دمشق 1999م،  6-109، 298، بتصرّف، ويدجيري: المذاهب، ص 314. Kearney, R, Twentieth Century Continental Philosophy, .London,1994, p241 ff  لخص آرون المنهج التاريخي عند بعض المؤرخين الألمان كالتالي: تم عند "زيمل" توثيق الوقائع التاريخية، وعند "ريكيرت" اصطفاء هذه الوقائع، وعند "ماكس فيبر" الكشف عن العلاقات السببية، وعند "دلتاي" تكوين الجمل. (أنظر؛ آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية، ص 296).

[83]. بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 121.

[84]. المرجع نفسه، ص 122.

[85]. حركة الاستنارة: لم تكن فقط ضد سلطان الكنيسة، إنما أيضًا الدين "كيفما كان"، واعتبر فولتير نفسه قائداً لحملة استهدفت  القضاء على المسيحية، فقاتل تحت شعار “مَحق الباطل”، وكان الدين بنظرهم مجرداً من أية قيمة إيجابية (أنظر؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 148-150)، كما كانت قضايا التجسيد والثالوث المقدس والأساليب الكنسية من العوامل التي أدت إلى إبعاد المفكرين عن الدين (انظر؛ لانج، جيري: حتى الملائكة تسأل (عن قصة الإسلام في أمريكا)، ت: زين نجاتي، القاهرة 2002، ص 13،14).

[86]. أنظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم، ص 203 ،204، أنظر أيضًا؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 288حاشية 33م.

[87]. أنظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ت: محمد عناني، القاهرة 2008، ص57.

[88]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 405، أنظر أيضًا؛ عبد المالك الئميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة، ص 39-وما بعدها.

 .[89]بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 124قراءة في

المناهج الغربية  لتفسير التاريخ

في القرن 19م

 

       تمهيد:

      يتفق الباحثون على أهمية المنهج في البحث العلمي. لأن صحة وسلامة المنهج يؤدي إلى صحة وسلامة موضوع البحث المدروس ونتائجه.

      لأجل ذلك اهتم العلماء والباحثون في قضية المنهج العلمي لدراسة التاريخ، وجعلوا الحديث عنه مقدمة متعارف عليها، ومدخلًا إلى الأبحاث العلمية.  وإذا كان هؤلاء العلماء والباحثون اتفقوا على أن منهج البحث التاريخي هو طريقة جمع وتحليل الوثائق والمصادر التاريخية من خلال النقد والتحقيق. [1] إلا أنهم اختلفوا حول منهج التفسير، أو طريقة التفسير، ومن هنا تعددت مناهج تفسير التاريخ خلال القرنين السابقين؛ التاسع عشر والعشرون، و تباينت تباينًا كبيراً خاصة في أوروبا.

      ولهذا تأتي أهمية دراسة قضية المنهج العلمي. بل أن بعض الباحثين يعتبر أن "المنهج" هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم، لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث،  [2]ومنعًا للالتباس لابد من التوضيح والتفريق بين منهج البحث، ومنهج التفسير، وفلسفة التاريخ –أثناء هذه الدراسة- فالأول، هو وسيلة العمل و أداة وطريقة التنفيذ، وجمع المادة وتحليلها وتركيبها، والنقد والمقارنة، أما الثاني فهو المنهج الذي يتبعه الباحث لفهم، واستنطاق، وتفسير المادة التاريخية، أما فلسفة التاريخ فهي النتائج الفكرية ذات طابع التفسير الكلي، التي أخذ بها الباحث سواء بعد إنجاز بحثه، أو اعتنقها، بطريقة قبلية مسبقة. [3] وإن كان البعض يعتبر قضايا المنهج العلمي جزء من الفكر الفلسفي بشكل عام، إلا أننا نستطيع القول ان هذه الدراسة واسطة الاتصال بين حلقتين، هي: (منهج البحث، والنظرية الفلسفية)؛ أي حلقة مناهج التفسير.

      وتأتي أهمية القرن 19م أنه شهد عصر النهضة الصناعية والعلمية الكبرى في أوروبا، كمحصلة لحركة الاستعمار العالمية. كما شهد تغيرات سياسية واجتماعية هامة. على أن التحول الحقيقي كان في الفكر، والثقافة، والصراع الفكري الذي دار بين المثاليين والماديين، وبين الوضعيين والتاريخانيين، وفي اختلاف المناهج وتعددها، وما نتج عن هذا الصراع. كما سوف نرى في هذه الدراسة.

 

      أهداف البحث:

    يهدف البحث إلى معرفة التجربة الأوروبية في مجال مناهج تفسير التاريخ، التي ظهرت في القرن 19م، والكشف عن الفوارق بينها، وظروف نشأتها واستخداماتها. وهو قرن شهد ثراءً كبيراً في مجال النهضة العلمية في أوروبا، خاصة في مجال المناهج، كما شهد صراعًا واختلافًا بين المفكرين الأوروبيين حول فهم وتفسير التاريخ

 

      أهمية البحث:

      تكمن أهمية البحث أنه يكشف عن حقل معرفي هام في مجال الدراسات التاريخية، وهو "مناهج التفسير" التي تختلف عن منهج البحث، وعن نظريات فلسفة التاريخ. الشيء الذي سوف يساعد الباحثين في اختيار واستخدام هذه المناهج، مما يعزز من علمية الدراسات التاريخية، مع اعتراف الباحث أن كل منهج منها يستحق دراسة كاملة عنه، حيث لا زال الفكر التاريخي بحاجة إلى أمثال هذه الدراسات.

 

      الدراسات السابقة:

    للأسف لم يقف الباحث على دراسات سابقة في هذا الموضوع، سوى دراسة تقترب نوعًا منه، وهي دراسة لكاسيرر آرنست بعنوان (في المعرفة التاريخية). ولهذا لم تكن كافية، رغم أهميتها. إضافة إلى بعض الدراسات حول فلسفة التاريخ، على أن الحديث عن مناهج التفسير أتى عرضيًا ضمن الحديث على بعض النظريات الفلسفية.

        

      منهج البحث:

   يتبع البحث المنهج الوصفي التحليلي ضمن جمع مفرق، لغرض الوصول إلى تحقيق أهداف البحث السالفة الذكر.

 

     تاريخ ونظريات مناهج تفسير التاريخ:

     يعتبر بعض الباحثين أن المنهج العلمي هو أحد تراث العصور الوسطى. [4] إلا أننا سوف نبدأ في استعراضنا الوصفي لهذه الدراسة من العصر الحديث. وخاصة بعد ما سمى (عصر التنوير)، حيث علا شأن العلوم التجريبية وفلسفتها وهيمنتها على الحياة العلمية في أوروبا. [5] مما سبب في رد فعل بعض الفلاسفة على هذا التوجه، ومنهم هردر الذي حاول التفريق بين منهج يدرس الطبيعة، وآخر يدرس الإنسان وتاريخه.

 

       هردر: المنهج الذاتي (لا يفهم الروح إلا الروح):

      كان منهج جون هردر (1744-1803م) [6] لدراسة التاريخ، هو المنهج الذاتي، والفهم العاطفي للحياة الباطنية للآخرين، من خلال المنهج التحليلي، وذلك بناءً على نظرته للتاريخ والكون

      ينظر هردر إلى التاريخ الإنساني كما جاء في كتابه (من فلسفة التاريخ إلى الحضارة الإنسانية) أن التاريخ لا تتحكم فيه النزعة العملية الخاصة بإنجاز الأفعال، بل كإنسان ذي مشاعر. وعلى ذلك لم ينظر إلى مجموع أفعاله كما يفعل المؤرخون، بل إلى ديناميكية مشاعره. وجميع الأفعال الإنسانية السياسية، والفلسفية، والدينية، والفنية، لا تمثل إلا الجانب الخارجي من الإنسان.  [7]

      كما أن الإنسان ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالكون المادي المحيط به، كونه وضع على هيئة كائن حي يسمح بخلق كائنات حية عليا فيه، تنمو وتتطور في داخله، لتبلغ مبلغ النضج الكامل، أو أسمى مراتب الخلق. فالإنسان بهذا هو حلقة بين عالمين؛ العالم الطبيعي –الكون المادي– الذي نشأ منه، والعالم الروحي الذي يخرج إلى حيز الوجود المادي في هذا الهيكل الإنساني، لأن وجوده الروحي يتخذ شكل قوانين روحية تظهر آياتها على الأرض، والتاريخ: "مسرح يبين دور الله في رعاية الإنسان على الأرض، وكل شيء يجري في هذا المسرح لغاية ما؛ بالرغم من أننا لن نستطيع أن نرى الغاية النهائية. أنه مسرح تظهر فيه العناية الإلهية فقط، من خلال ثغرات وأجزاء متناثرة من المشاهد الفردية". [8] ولذلك فان هردر لا يرى في التاريخ مجرد المجرى الخارجي للأحداث، بل يسعى إلى رؤية روحه؛ الروح الكامنة خلف الأقنعة و الحجاب. وكل جزء من الأجزاء لا يعتبر جزء فحسب، بل أن الكل يحيا في بعضه البعض، ولهذا توصف فلسفة هردر أنه تفسير روحي للتاريخ، حيث لا يفهم الروح إلا الروحظ. [9] وبما أن الكون كائن حي، فالتاريخ هو أفعال هذا الكائن. ولذلك لا يمكن فهم روح الأمة وشخصيتها بمنهج العلوم الطبيعية، التي لا تبين سوى المظهر الخارجي للأحداث. أما روح التاريخ وباطنه فلا يمكن التعرف عليه، إلا من خلال الروح الداخلية للإنسان، التي تستطيع أن تكشف روح العصر. [10]

      كان هردر يشعر بأهمية نظرته الذاتية، إلى درجة أنه زها بتمكنه من قراءة التوراة، كما لم يقرأها أحد من قبل، فالتوراة بعد قراءته أصبحت كتابًا مقدسًا، كشف عنه بعد عدة قرون من الغموض كما يدعي.

      ويبدو المنهج الذاتي واضحًا في فكر هردر، عندما جعل من أوروبا مركز تاريخ العالم، وأعطى الجنس الأوربي أعلى مراتب التقدير في التاريخ الإنساني. كما أن نظريته تستند إلى أن الخصائص السيكولوجية المتوارثة في التكوين هي أساس الفوارق بين الأوضاع الاجتماعية، والسياسية للأجناس البشرية المختلفة.  [11] وهي نظرية بررت للتعصب القومي. [12] إلا أن بعض الباحثين يرون أن هردر أراد تأسيس المنهج العلمي لفلسفة التاريخ [13] .كما أن الكثير منهم يقرون بتأثيره الكبير على تاريخ فلسفة التاريخ وتطورها. [14] وتأثيره على الفلاسفة، أمثال هيجل ودلتاي. [15] وما نستطيع أن نقوله: أن فكره الفلسفي بلا شك كان له التأثير الأول في اتخاذه هذا المنهج.

      على أن بهذا الفكر والمنهج كان هردر يعتبر رائد، رفض فكر ما سمى بعصر التنوير [16] . الذي انقلب على الكنيسة والمسيحية. كذلك كان رائد فكر استقلال المنهج التاريخي، عن مناهج العلوم الطبيعية.  [17]

 

       رانكه: المنهج الموضوعي (وصف ما كان كما كان):

      يعتبر ليبولد فون رانكه1795-1886 [18] (رائد المنهج الوصفي الموضوعي للتاريخ، فهو وإن كان متأثراً في تفسير وفهم التاريخ إلى حد ما بفكر هردر، إلا أن منهجه كان مختلفًا تمامًا. وهو منهج "وصف ما كان كما كان"، والبدء بالبحث التاريخي دون أحكام مسبقة "الموضوعية الكافية"، وبالاستناد إلى مصادر معاصرة لحقبة موضوع الدراسة، مصراً على أنه ينبغي للمؤرخ ألا يضيف لمادته شيئًا بقصد زيادة سحرها الجمالي، أو سعيًا وراء إحداث تأثير بلاغي؛ أي كان منهجه المنهج الوصفي، والدعوة إلى الموضوعية التامة دون أي تأثير، أو تدخل من المؤرخ نفسه. أو الانحياز إلى أي طرف، أو الدفاع عن أي برامج دينيه أو قوميه أو سياسية، ووصف من يفعل ذلك بأنهم ليسوا مؤرخين، بل مجرد "كتاب نشرات". وبهذا قامت فكرة الموضوعية التاريخية عند رانكه على مثل هذا الفصل بين الذات، والموضوع، أو الشخصي والواقعي. محاولًا عدم التعبير عن الاهتمام بصوره ذاتية، أو شخصيه لكل الأحداث التاريخية، التي وصفها [19] . 

      كما كان رأيه أن التاريخ لا ينبغي أن يكون مصاغًا بطريقه توجيهية تربوية مباشرة، حيث يمكن أن تتحقق هذه الأهداف من خلال الوقائع المجردة والأفكار، ودون تدخل المؤرخ نفسه. [20] والجدير بالذكر أن الوصف كان من أهم مناهج المعرفة في نظرية المعرفة، بشكل عام منذ التاريخ القديم، وخاصة عند اليونان.

     وربما لا نستطيع فهم منهجه إلا من خلال قراءة فلسفته، فإنه وإن كان يعارض كل فلسفة تأمليه للتاريخ، فإنه كان يؤمن بالفهم الكلي لحركة التاريخ، وعالمية وكلية المتغيرات التاريخية. فالتاريخ لم يكن عنده مجرد سلسلة من الأحداث المنعزلة، بل كان أحداثًا محكمة، متبادلة التأثير، وصراعا محكمًا بين القوى الروحية، وكان لكل من هذه القوى معنى محدد عنده، وقد أسماها "أفكار الله".

      فالتاريخ لا يقدم مشهدًا لأحداث مجردة كما يبدو للنظرة الأولى، ولا رؤية للدول والشعوب القائمة بالغزو أو الهجوم، والتي يتلوا بعضها بعضًا، فهناك في الحقيقة قوى روحية تفيض بالحياة، وهي قوى خلاقة، إنها "الحياة" نفسها. وهناك طاقات أخلاقية نراها هي بدورها في التاريخ. ولا يمكن لهذه الطاقات أن تعرف، أو أن تفهم مجردة، بالرغم أننا نستطيع أن نراها وأن ندركها. ويستطيع أي شخص أن يدرب نفسه على الشعور بوجودها. إنها تنمو وتسيطر على العالم، وتظهر نفسها في كثير من الصور المتنوعة، كما أنها تتحدى بعضها البعض، ويحد بعضها البعض، ويتغلب بعضها على بعض. ويكمن السر الكامل لتاريخ العالم في تلاقي هذه القوى، وفي انتقالها، واستمرارها، وتلاشيها، وعودتها للحياة مرة ثانية. هذه الأشياء تعني أن هذه القوى تستطيع أن تحقق كمال أعظم. [21] ورغم أن معظم عمل رانكه والأكثر أهمية كان في تاريخ الكنيسة، [22] إلا أن المنهج الذي اتخذه عُد نموذجًا للمنهج التاريخي. [23]

      على أنه وجهت انتقادات عديدة إلى فكر ومنهج رانكة من بعض المعاصرين له، ومن تلاهم من المؤرخين، منها أنه حول التاريخ إلى سجل جاف فاقد لبعده الأدبي، حيث أصبح مجرد سجل للحقائق المؤيدة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع. كما أخُذ عليه انه كان متعصبًا للدولة البروسية، ومناهضًا لكل حركات التحرر التي قامت في أوروبا في عصره. ومن أبرز منتقديه لامبرخت، [24] ودروسن، [25] وياكوب بوركارت، [26] الذي كان تلميذاً لرانكه نفسه. [27]

 

      المنهج الجدلي:

     يعد من أهم وأشهر مناهج التفسير للتاريخ، برز في القرن التاسع عشر على يد هيجل (1770-1831)، [28]  رائد الفكر المثالي، [29] في أوروبا. ثم اخذ عنه هذا المنهج (كارل ماركس) أهم فيلسوف للفكر المادي أيضًا. وعلى ذلك فالمنهج الجدلي نموذج لمنهج تفسيري، يمكن أن تستند إليه نظريتان متضادتان تمامًا في تفسير التاريخ، وهما التفسيرين المثالي والمادي.

  والجدل Dialectic في معناه اليوناني يشير إلى تصادم الآراء المتقابلة، بقصد معرفة الحقيقة أو طريقة الإقناع. واستعمله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس Heraclites بمعنى الصراع، والتغير المستمر في الطبيعة. [30] واشتغل به بعض الفلاسفة الغربيين. [31] على أن هيجل طور هذا المعنى، فاعتبر الجدل عبارة عن القضية والنقيض لها، ثم مركبهما، وأنه قانون الوجود والطبيعة والفكر والمجتمع، وأن الجميع في حالة صيرورة وتغير وتحول دائم بحسب تركيب منطقه.   [32]

      تقوم نظرية هيجل في تفسير التاريخ على مبدأ "وحدة الوجود"، إذ لا موجود إلا للمطلق الواحد، ذو الوحدة المطلقة، التي لا تعتمد على شيء خارج عنها. وعلى ذلك لا توجد أي ثنائية بين عالم المثال وعالم الواقع، حيث الفكر والوجود وحدة مطلقة.

    والمطلق الذي هو روح العالم هو المسير الحقيقي لكل شيء، وحركة التاريخ ما هي إلا سعي الروح الكلية لتحقيق وعيها الذاتي بحريتها. والحرية هنا بمفهوم قدرتها على تحقيق كل شيء. وأسلوب المطلق لتحقيق ذلك هو المنهج الجدلي حيث الصيرورة تبدأ من القضية أو الموضوع، ثم نقيضه ثم المركب لهما. هذا المنطق هو الذي يحكم حركة التاريخ، وهو الذي يفسر كل شيء.

      والمثال التقليدي للجدل هو حبة القمح التي تنمو، فينبثق منها الساق، فتنتفي كبذرة وينمو القمح ويحمل السنابل، عندها يهلك الساق، وهذا هو نفي النفي، أو مركب النقيضين. على أن حبات القمح في السنابل تحمل خصائص البذرة الأولى وهكذا.

       وعلى ذلك فإن حركة التاريخ هي صراع الأضداد، حيث لا تكشف الروح عن نفسها إلا من خلال صراع. ومن ثم فإن الجدل هو سر حركة التاريخ. [33] ومذهب هيجل من التعقيد بحيث يحتاج إلى مزيد من الشرح، وقد ألتف حول النظرية الكثير من الأنصار، وحازت على الكثير من الدراسات والاهتمام، ومثلت قمة الفكر المثالي في أوروبا.

   ولا نعرف إذا كان هذا المنهج سبق النظرية والفكرة عند هيجل، أم أن النظرية هي التي صنعت هذا المنهج التفسيري. على أنه سرعان ما أخذ عنه هذا المنهج كارل ماركس، ليضع نظريته المادية في تفسير التاريخ. لكن ماركس وإنجلز أسقطا العمق والجوهر المثالي عن المنهج الجدلي، واعتبروا أن جدل هيجل كان واقفًا على رأسه وليس على قدميه بسبب فكره المثالي، ثم ألبسوا المنهج لباسًا ماديًا لتفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية على حد سواء. وهو الشيء الذي عده بعض المفكرين تشويهًا للهيجلية وسوء فهم لها. [34] ومع ذلك فإن ماركس وإنجلز اعترفا بالفضل لهيجل، حيث يشير إنجلز عن الجدل الهيجلي أنه عمل لم يضطلع به أحد منذ أرسطو سواه، بل أنه أعظم ما أنجزته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. [35]

      لقد أعجب ماركس وإنجلز بالمنهج الجدلي لأنهم رأوا فيه منهج يستطيع أن يفسر مجرى التطور والتغير المستمر في المجتمع وفي الطبيعة، كـ "حركة دائمة"، وذلك عكس المناهج الأخرى ذات النظرة الاستاتيكية الجامدة.   [36]

  ثم وضع ماركس قوانين تشكل منهجه في تفسير التاريخالقانون الأول، التغير من الكم إلى الكيف، سواء في عالم الطبيعة أو عالم الإنسان. والقانون الثاني، تداخل الأضداد وصراعها. والقانون الثالث، نفي النفي، وكلها قوانين تفسر حركة الطبيعة والمجتمع من منظور التفسير المادي. [37] وهكذا فالجدل منهج يفسر كل شيء-حتى الفكر-أنه يتطور من الأدنى إلى الأرقى، نتيجة التناقضات الداخلية التي تعمل فيه.

      وإذا كانت الفلسفة هي إبداع العقل البشري في الفهم، إلا أن هذا العقل يتطرف أحيانًا بعيداً في جانب محدد، ويغفل كل الجوانب الأخرى، وذلك كما فعل ماركس وإنجلز في تفسيرهما المادي للتاريخ، عندما وضعا العامل الاقتصادي والحاجة المادية للإنسان وصراع الطبقات، العامل الوحيد المفسر للتاريخ.

      ثم لم يلبث أن وصلت التأثيرات الفكرية الأوروبية إلى الساحة العربية. [38] فأخذ بعض الباحثين تطبيق المنهج الجدلي المادي في دراسة تاريخ الإسلام وفكره، وألبسوا نظرية صراع الطبقات على تفاصيل التاريخ العربي، فقالوا أن أبا ذر ومجموعة من الصحابة كانوا يساريين، ومعاوية وآخرون من التيار اليميني. أو تقسيم آخر؛ الأشاعرة والفقهاء كانوا رجعيين، بينما ابن رشد والمعتزلة تقدميين عقلانيينويرى أصحاب هذا المنهج أن الإسلام-فكراً وتاريخًا-ما هو إلا نتاج العلاقات الاقتصادية كحتمية تاريخية لا بديل عنها. وأنه انعكاس لتحولات أسلوب الإنتاج والتبادل داخل المجتمع العربي.  [39]

      على أنه يلاحظ أن الدعاة إلى هذا المنهج خرجوا برؤى متباينة، وتطبيقات مخالفة عن بعضهم البعض. الشيء الذي يصبغ الذاتية على أبحاثهم ودراساتهم ذات المنظور الماركسي للتاريخ الإسلامي.   [40]

 

       منهج همبولت (الوصف الخلاق):

      أصبح منهج رانكة من الناحية العملية مهيمنًا على الكثير من المؤرخين، [41] مثل همبولت،  [42] الذي يقول مع رانكه [43] أن مشكلة المؤرخ هي أن يذكر ما حدث فعلًا، فإن الوصف المباشر هو الطلب الأول والجوهري الذي يطلب منه، كما أنه أسمى ما يستطيع أن يحققه". وإذا أتبعنا هذه النظرة فيبدو أن ما يقوم به المؤرخ هو الاستيعاب فقط، وأن يكرر، لا أن يعمل عملًا مستقلًا جديدًا وخلاقًا.

      وبذلك يتفق مع رانكه في أن منهج المؤرخ هو الوصف، ولكنه يختلف حول أن مهمة المؤرخ في حاجة إلى تعاون دائم، مع الخيال الخلاق، الذي يستطيع وحده ربط الوقائع المنفصلة والموزعة في نطاق واسع وفي وحدة حقيقية. ولكن من الواجب ألا ينطلق خيال المؤرخ بعيدًا عن الأحداث الفعلية. ولكن التأمل والتجربة هي أوجه مختلفة للعقل المدرك للتاريخ.

       أما فلسفة همبولت فهي تشير إلى أن الظواهر الجزئية لوقائع التاريخ، تظهر دوامًا معينًا، ونظامًا وخضوعًا للقانون. والتاريخ بصرف النظر عما يتراءى من مظهره المتحرك، وتعدد نواحيه، يشبه "آله ميكانيكية" تخضع لقوانين ميتة، لا تتبدل، كما أنه يخضع لدفع قوى ميكانيكية. [44] ولكن بالمقابل رفض همبولت أي غائية أو هدف محدد سواء كان بشري أو سماوي، مدعيًا أن القوى الدافعة للتاريخ، هي بصفة رئيسية "القوى الإنتاجية" و"الحضارة" و"القصور الذاتي" للإنسان. ولذلك لا يعترف سوى بقوى الطبيعة الإنسانية فقط، ولا شيء سواهاورغم اتفاقه مع رانكه حول المنهج الوصفي، إلا أن الأخير اختلف عنه في نظرته للعوامل المحركة للتاريخ، فهي بالنسبة لهمبولت "قوى إنسانية"، بينما عند رانكه سر إلهي. ولعل هذا نموذج للاتفاق في المنهج، والاختلاف في الفكر الكلي.

 

      أوجست كونت (المنهج الوضعي):

   لكن سرعان ما ظهر اتجاه الاستخدام الوظيفي والغائي للمنهج التاريخي. وتمثل ذلك في أوجست كونت (1798 -1857) [45] الذي أعتبر نفسه مؤسس المذهب الوضعي، وعلم الاجتماع. [46] وملخص مذهبه الدعوة إلى استخدام مناهج العلوم الطبيعية في دراسة العلوم الإنسانية.

    والغاية من استخدام المنهج الوضعي، هو البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، ولا يمكن أن يقتصر على مجرد سرد الحوادث. وهدف هذا المنهج هو الوصول إلى التنبؤ من اجل السيطرة والتحكم. [47] والكشف عن فكرة التقدم في التاريخ واعتبار أن الإنسان كائن حي، مثل باقي الكائنات. ولذلك فهو خاضع للقوانين التي تتحكم في الطبيعة الحية. وكل ما قيل في طبيعة الإنسان الروحية، باعتبارها شيئًا لا يخضع للوجود الحيواني، وأحواله هو مجرد وهم. وعلى المنهج الوضعي نبذ ذلك. زاعمًا أنه اكتشف القانون العام للتطور، الذي تنشا منه فلسفة، أو منهج كلي حقيقي للتاريخ. كما أن التطور الاجتماعي الذي تصوره، ما هو إلا استمرار للتطور البيولوجي الحاصل في بقية الكائنات الحية.

  وبالتقسيم المنهجي الذي وضعه كونت جعل مهمة المؤرخين هي فقط توثيق الوقائع التاريخية، [48] والتأكد منها عن طريق النقد والتحليل، بينما مهمة الكشف عن قوانين حركة التاريخ، تركت لعلماء الاجتماع، حسب زعمه. [49]

   ونستطيع القول انه هيمن على القرن التاسع عشر نزعة تنكر الدين، وتؤمن بإمكانية تفسير كل الظواهر باختلاف أنواعها وتعددها من خلال المنهج التجريبي فقط، واستسلم مفكرو هذا العصر وفلاسفته لسيطرة نموذج فيزياء نيوتن القائم على التجربة، وتم تعميم أسس المنهج الوضعي لتشمل العلوم الإنسانية. وكان من نتائج ذلك، أن تم اختزال الظواهر الإنسانية في جوانبها الحسية والفيزيائية، وإسقاط كل ما هو غيبي من هذا الوجود، حتى أصبح لم يعد هناك فرق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية. كما تم تجريد العلم من كل قيمة أخلاقية، والتركيز بطرح سؤال الوسائل دون سؤال الأهداف والغايات، ذلك أن “الحالة الوضعية تقوم أساسا على اعتبار الظواهر خاضعة للقوانين، وأن مهمة البحث العلمي هي العمل على الكشف عن هذه القوانين؛ أي بيان شروط وجود الظواهر، لا أسبابها الأولى والأخيرة. إن المهم والأساسي–في نظر أوجست كونت – هو بيان كيف يحدث الشيء، لا البحث في لماذا حدث. [50] وبهذا تتحول أهداف الدراسات التاريخية من محاولة الإجابة على السؤال "لماذا"، إلى الإجابة على "كيف حدث". فالعلم حسب نظره دراسة العلاقات السببية للظواهر وليس دراسة الماهيات للظواهر ذاتها. وبهذا فقدت النزعة العلمية التي يدعيها كونت فهم غائية الوجود والتاريخ والإنسان. [51] وربما نستطيع القول إن الوضعية لم تكن سوى رد فعل على المثالية الألمانية ومنهجها التأملي، [52] وهو ما يؤكد التفسير الجدلي للتاريخ الفكري لأوروبا؛ إذ عندما يسود تيار فكري معين، لا يلبث أن ينشأ آخر مضاد له وهكذا.

 

        هنري بكل (المنهج الإحصائي لكشف قوانين التاريخ):

      كان المنهج الإحصائي هو المنهج العلمي الذي دعا إليه واتخذه المؤرخ الإنجليزي هنري توماس بكل (ت1862م) [53] ليثبت من خلال هذا المنهج أن لا شيء مصادفة في التاريخ الإنساني، وأن التاريخ يخضع لقوانين صارمة شبيهة بقوانين الطبيعة، موضحًا على سبيل المثال: أن عدد الجرائم التي تقترف كل عام تخضع لقوانين رياضية صارمة مثل أية ظاهره طبيعية.

     وكانت النتيجة هي الدمج بين التاريخ وعلم الطبيعة حسب رأي بعض الباحثين، حيث لا شيء يخلو من النظام الطبيعي وحتميته الصارمة. وأن الحرية المزعومة للإرادة الإنسانية هي "وهم". وبذلك فإن بكل أزال كل الفوارق بين العالم الاجتماعي وعالم الطبيعة، وبين الأخلاق وعلم الطبيعة. بل الوقوف موقف الوسط بين العالم الميتافيزيائي والعالم الفيزيائي، حيث يؤكد: "أن توطيد شروط هذا التحالف، يعني تحديد الأساس الذي يعتمد عليه كل التاريخ". [54]

      ولكنه يؤكد أن فكرة الرفاه البشري مرتبط بشكل أكبر بالمعرفة العقلية، فالظواهر الطبيعية والأخلاق، أقل تأثيرًا من تأثير المعرفة، وبهذا فإن التقدم مرتبط بالعبقريات الفردية إلى حد كبير. ولذلك تمسك بالقول ان معرفة قوانين العلاقات الاجتماعية هو قبل كل شيء يجب أن يكون موضوع البحث التاريخي. [55]

     ولا يمكن معرفة القوانين العقلية التي تنظم تقدم المجتمع إلا من خلال (المنهج الإحصائي)، المستند إلى مسح شامل للبيانات. ذلك لأن المناخ والتربة والغذاء والسمات الأساسية للطبيعة، هي الأسباب الأساسية للتقدم الثقافي كما يقول. [56]

 

    تاين (الوصف ثم التفسير):

     أما منهج الوصف ثم التفسير أو جمع الوثاق، ثم البحث بعد ذلك عن العلل، فقد كان المنهج الذي دعا إليه المؤرخ الفرنسي تاين (1828–1893م)، [57] الذي حاول التخلص من هيمنة الفكر المثالي الهيجلي. على أساس أن تلك الوقائع أو الظواهر تتحدث عن نفسها، وتفسر نفسها بنفسها، والتخلص من أي معايير أو أحكام مسبقة أو قبلية أو الشعور بأي تعاطف شخصي أو نفور؛ أي أن على المؤرخ الحياد الكامل أو عدم الانحياز. [58] والسعي إلى استخدام المناهج الوضعية لدراسة التاريخ. [59] ولأجل ذلك فهو يتفق مع "بكل" في استخراج القوانين المنظمة للتاريخ. [60]

  إلا أن الفارق بينه وبين كل من رانكه وهمبولت هو التبسيط الشديد لتفسير وقائع التاريخ، الذي اعترف به تاين نفسه، حيث يشير إلى أن: "الدافع الكامن وراء كل أبحاثه هو العثور على تعبير غير معقد يفسر الأحداث العظيمة التعقيد". [61] ولأجل ذلك كان تاين يصر أن منهجه هذا هو المنهج العلمي الصحيح لدراسة التاريخ. [62]

     ولأجل نقد وتقييم تاين، تساءل المؤرخ كاسيرر هل كانت التصورات أو التفسيرات التي قدمها تقوم بناء على المنهج الاستقرائي أم الاستنباطي؟ [63] ليكشف أنه لم يلتزم بحرفية منهجه المدعي-الاستقرائي، بل شابت تصوراته كثيرًا من التفاسير المستنبطة، وهو ما يسقط الموضوعية التي يدعيها ويناقض منهجه المزعوم. [64]

     على أية حال، ظل تاين يؤيد النظرة الفردية في التاريخ؛ أي أن الفرد هو بداية التاريخ وغايته، ومنبع كل معرفه حقيقة، حيث يقول" :لا يوجد أي شيء إلا من خلال الفرد، أنه الفرد نفسه الذي يجب أن يفهم (..) اتركوا إذن نظرية الدساتير، القوانين، والتفسير الآلي لتركيبها، ونظرية الدين وأنساقها، و بدلًا من هذه الأشياء، حاولوا مشاهدة الناس في مصانعهم ومكاتبهم وحقولهم، كما يعيشون تحت الشمس، فوق أرضهم و في بيوتهم (..)، انظروا إلى ما يأكلون، وما الذي يرتدون. فهذه الخطوة الأولى في التاريخ". [65]

 

      دروسن (تعدد المناهج):

      ثم لم يلبث بعد ذلك أن ظهر جيل جديد من المؤرخين، لا يقتنعون بمناهج رانكه ومعاصريه ومن تلاهم من المؤرخين. ولكن سيطرت عليهم التوجهات السياسية، فوضعوا منهجا جديدًا في الدراسة التاريخية وهو تحديد أهداف مسبقة للدراسة، محدده ومشخصه بدقة، وذلك لتحقيق الاغراض السياسية التي تقام لأجلها الدراسة التاريخية؛ أي الاستخدام السياسي للدراسات التاريخية. على أن ذلك لم يسبب سوى نزاع جديد، حول ما هي الأهداف السياسية الجديدة، التي يجب أن تحدد للدراسة التاريخية. [66]

   ومن هذه المدرسة الواقعية السياسية في ألمانيا أو مدرسة التاريخ السياسي يوهان دروسن (1808-1884م)، [67] الذي هاجم بكل في كتابة (تاريخ الحضارة في بريطانيا) بشكل تفصيلي، و هو لم ينتقد فقط جعل التاريخ علما بل هاجم كذلك كل المناهج المستخدمة آنذاك في دراسة التاريخ، فالتاريخ يثير أسئلة لا يستطيع -كما يقول- التأمل الفلسفي أو اللاهوتي الإجابة عليها، أو العلم التجريبي الذي يدرك عالم الظواهر من ناحية علاقاته الكمية فقط، أو المنهج الاستنباطي أو المنهج الاستقرائي، كذلك لا يمكن الإجابة على أسئلة التاريخ باستخدام اصطلاحات الطبيعة الرياضية، ويقول دروسن أن المناهج تختلف وفقا لموضوعاتها. ولذلك أصر على تأييد كثرة المناهج وتعددها في دراسة التاريخ، ولكن ركز أكثر على فكرة الفهم، وجعلها محورُا للمعرفة التاريخية. وفكرة الفهم هذه هي التي بدأ منها بعد ذلك دلتاي تشخيص فردية المعرفة التاريخية. كما سوف نرى. [68]

 

      منهج ثيودور مومسن:

     أما ثيودر مومسن (1817-1903م)، [69] فإنه وإن كان ينتمي إلى مدرسة التاريخ السياسي، إلا أنه أضاف إليها منهجًا مهمًا في دراسة التاريخ، وهو أنه لا يتأتى فهم النظام السياسي، والحياة السياسية في الدولة، إلا باستكمال دراسة جوانبها (التشريعية والقانونية)، ودراسة النقود، والمخطوطات القديمة. كما تميز منهجه لدراسة التاريخ، بضرورة التعاطف الوثيق مع الشخصية التاريخية المدروسة، حبًا أو كراهية، ولابد من إطلاق مشاعر وخيال المؤرخ أيضاً، ولأجل ذلك نظر مومسن إلى التاريخ ليس كعلم بل كفن، لا يمكن للباحث فيه إلا أن يمتلك مواهبه الخاصة بذلك.

     كما أعطى مومسن معرفة اللغات، وتحقيق النصوص والمخطوطات أولوية المنهج التاريخي، وذلك للوصول إلى ما أسماه روح التاريخ، وهو بهذا يقترب كثيراً من رانكه. ثم دعا إلى أسلوب منهجي جديد آنذاك، وهو العمل التعاوني، حيث رأى أن كاتبًا واحدًا بمفرده لن يستطيع الاضطلاع بأعباء البحث التاريخي، ولأجل ذلك من الضروري تنظيم العمل بين الموهوبين، على أن يأتي بعد ذلك دور المؤرخ الفذ بطابعه الفردي وعبقريته الخاصة به. [70]

 

        بين التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري:

      يستطيع باحث التاريخ اليوم أن يقف على جوانب نزاع طويل في القرن التاسع عشر، نشب بين أنصار التاريخ السياسي، والتوظيف السياسي للتاريخ، وأنصار التاريخ العام للحضارة ومنهم مؤرخو التاريخ الاقتصادي، وكان باحثو تاريخ الحضارة يستندون إلى حدٍ ما للأسس التي وضعها قبل ذلك فولتير Voltaire (1694-1778م)، [71] الذي أدرك قصور الدراسات التاريخية المقتصرة على السياسة وحدها، لذلك أشار إلى أن التاريخ لا يكون فقط سجلاً من المعارك والعمليات العسكرية، أو المؤامرات السياسية، ولكن عليه توضيح النشاط الفكري بأكمله، فإلى جانب الأحداث السياسية، عليه أن يرسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية لكل عصر، إضافة إلى عرض للحياة الأخلاقية بكاملها في ذلك العصر، [72] إذ أن التاريخ بالنسبة له هو قصة تقدم العقل البشري.

   ورغم ذلك ظل تاريخ الحضارة كموضوع للدراسات التاريخية، موضوع هجوم مستمر من كثير من المؤرخين العاملين في مجال الدراسات التاريخية في القرن التاسع عشر، من حيث المنهج والموضوع، وان بالإمكان للصور الحضارية أن تصاحب دراسة الأحداث السياسية، ولكن ليس أكثر من ذلك. [73]

     على أن أنصار التاريخ الحضاري لم يبذلوا جهداً في الدفاع عن منهجهم في دراسة التاريخ، ولذلك يذكر ابرهارت جوتهاين (1853-1923م)، تعذر فهم طبيعية الدولة وتطورها فهمًا كافيًا، بقصر النظر إليها من ناحية واحدة. ولابد من فهم العوامل الأخرى خاصة القانون والاقتصاد والدين والعلم والفن والآداب.

    ويلاحظ المستعرض لهذا النـزاع إلى أن المقارنة بين الاتجاهين في كتابه التاريخ، لم تكن في صالح مدرسة التاريخ الحضاري، سواء من ناحية المنهج أو المصادر المعتمدة للدراسات، فكتابه التاريخ السياسي تستند إلى تاريخ طويل من العمل العلمي في هذا المجال، وأسس منهجيه واضحة. بينما كتابه التاريخ الحضاري، والتاريخ الاقتصادي يفتقر إلى مثل هذا، وإلى المصادر الكلاسيكية المتخصصة في هذا المجال. [74]

    على أية حال لم تكن أوضاع دراسات التاريخ الحضاري ذات أتساق واحد في أوروبا، ففي بريطانيا استمر فكر فولتير عن معنى تاريخ الحضارة وقيمته، وهو أن المحك الحقيقي لتقدم الحضارة هو تقدم المنهج والفكر، فالتاريخ ليس مجرد سرد، بل ينبغي أن يشرح السياق الفكري بأكمله ورسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية وأن يقدم نظرة عامة للحياة الخلقية بأسرها في العصر. وفي فرنسا استخدمت جميع مناهج التحليل النفسي آنذاك لدراسة تاريخ حركة دينية هي اليانسينية، [75] وانتشارها، وفي دراسة تاريخ الفن. أما في ألمانيا، اتبع كل من رييل (1823-1897)، [76] وفرايتاج، [77] منهج مختلف في كتابه التاريخ الحضاري، حيث الاستغراق في التفاصيل الصغيرة، ورسم مشاهد الحياة اليومية، لتكون صورة تاريخية كبيرة عند تجميعها. [78]

 

     دلتاي الفهم وتكوين الجمل (مجمل الفترة التاريخية):

     حين كانت المدرسة الفرنسية الوضعية مثل أوجست كونت تحاول مماثلة منهج دراسة التاريخ مع مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية، وكانت الفلسفة الوضعية تهيمن على الجامعات الألمانية، حتى نهاية القرن التاسع عشر، ظهر ويلهلم دلتاي (1822-1911م)، [79] يكتب فلسفته ومنهجه في التاريخ، حيث دعا إلى وضع حدود فاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ولهذا رفض أطروحات الوضعيين الذين يريدون استخدام مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية في الدراسات الإنسانية؛ إذ أن هدف المناهج الطبيعية الوصول إلى قوانين عامة، بينما الدراسة التاريخية تهدف إلى فهم واقعة مفردة غير متكررة. ولهذا استخدم دلتاي مصطلح الفهم بدلًا عن مفهوم التفسير، حيث أن العلم يعلل بينما الدراسات الإنسانية تتفهم الحياة أو التجربة [80] العلم الطبيعي موضوعه الطبيعة بينما التاريخ موضوعه الإنسان، ولهذا لابد للمؤرخ أن يكون قادرًا على أن يفهم من الداخل الأسباب والأغراض والانفعالات للأشخاص موضوع الدراسة التاريخية. [81]

       كما يرتكز منهج دلتاي في دراسة التاريخ على ما أسماه تكوين الجمل Totalities، والجمل تعني هنا مجموع سمات عهد ما، ووصفه من جميع جوانبه. حيث لا يمكن أن نفهم المجتمع والتاريخ إلا من خلال هذا المنهج، فالوقائع التاريخية–حسب زعمه–لا يمكن أن تفهم من خلال قوانين تشبه قوانين الفيزياء، وبالتالي لا يمكن أن نستخدم مناهج الطبيعة الفيزيائية لدراسة الوقائع التاريخية .ولهذا يشير دلتاي إلى أن الإنسان لن يصل إلى الإحاطة بمجموع الكون، كما أنه لن يصل بقانون واحد أو وحيد إلى تلخيص صيرورة الحياة التي لا تنقطع ولا إلى التنبؤ بمستقبلها. ورغم أن دلتاي كان يردد باستمرار أن المحيط الطبيعي يكيف حياة الإنسان كما أن الطبيعة هي مسرح الوجود الإنساني، وشرطه، إلا أنه يقول إنها ليست شرحاً له، ولا تملك مفاتيحه، وعلى ذلك لأجل الوصول إلى الحقيقة العلمية، لابد من الاستناد إلى اليقين المباشر والتجربة، كما لا يمكن أن نفهم التاريخ، إلا بالنظريات، ولا النظريات إلا بالتاريخ.    

     والعلاقة بين النظرية والتاريخ هو أن نبين العلاقة بين المعرفة المنتظمة وبين الوصف التاريخي. [82]

 

       خاتمة (نظرة نقدية):

      يعتبر النقد وسيلة مهمة لتطوير مناهجنا العلمية وأدواتنا المعرفية، ولا يقصد بالنقد هنا مجرد إظهار للعيوب، ولكن كما يقول فيلسوف المنهج العلمي في أوروبا كارل بوبر: "يتوقف نمو المعرفة خصوصًا "العلمية"، [83] على التعلم من أخطائنا". ويقول أيضًا" :منهج العلم هو منهج المناقشة النقدية". [84] فالنقد هو أحد أدوات المنهج العلمي للتطوير، والإصلاح، والتقدم العلمي.

      كانت البداية لظهور المناهج الغربية، هو الانقلاب على الدين والكنيسة، [85] لذلك ظل الكثير منها خلال القرون التالية مجرد تراث لهذا الارتداد، مع الاستمرار في محاولة تجريد العلم من أي صفة إيمانية، مما جعله بطبيعة الحال في حالة تضاد مع المؤمنون، فتراوح المنهج بين اللادينية والفكر اللاهوتي المسيحي، الذي لم يبتعد عن فكرة المخلص للسيد المسيح، في حركة جدلية استمرت حتى القرن العشرين، بظهور نظرية أرنولد توينبي في التاريخ.

       تعددت المناهج تعددًا واضحًا، كما رأينا، وكانت التأثرات متبادلة بين المنهج والفكر التاريخي نفسه، فتارة كان يؤثر المنهج بطبيعة الحال على نتائج الفكر الفلسفي، وتارة أخرى كان الفكر الفلسفي المسبق–القبلي–هو من يحدد المنهج والأسلوب

      ولقد بذل العلماء جهود كبيرة للوصول إلى منهج معرفي يحقق أعلى درجات الدقة ومعرفة الحقيقة، والاستفادة من التاريخ. إلا أن المنهج الذاتي يكاد يفقد علميته وأمانته، بتدخل الباحث وشخصيته دون قيد، مما يجعله عرضه للأهواء. أما ما يسمى بـ "المنهج الموضوعي"، لا يصل بالباحث إلى نتيجة، سوى وصف ما كان كما كان، وهو مالا يتحقق إلا نسبيًا. وبالتالي لا يحقق محاور العلم الأربعة (الوصف، التفسير، التنبؤ، والسيطرة)، كما أنه يجعل من المؤرخ مجرد عامل أرشيف –إذا نجح في وصف ما كان كما كان–أو مجرد موثق، فيفقد علم التاريخ بهذا صفته الإيجابية، والقدرة على الاستفادة منه لفهم الحاضر، ومعرفة توجهات المستقبل.

      وكانت نظرية النسبية لإينشتاين أثبتت أن الذات العارفة هي طرف في معادلة الطبيعة إذ أن موقع الشخص وسرعته معينات أساسية في المعادلة الرياضية في تفسير عمليات الكون. [86] وبهذا يسقط وهم الموضوعية سقوطاً لا رجعة عنه. فمكان وزمان الباحث التاريخي–كما ثبت علميا–إضافة إلى خلفياته الفكرية والنفسية، يحددان اتجاهات كتاباته. وهو الشيء-على سبيل المثال-الذي تنبه له ادوارد سعيد في دراسته للاستشراق ومحاولات الباحث الغربي دراسة الشرق. [87] وأيضًا مما يمكن أن يؤخذ على هذا المنهج هو تركيزه على الوسيلة وإغفال الغاية أو النتيجة النهائية، أي التركيز على دراسة الجزئيات دون الخروج إلى مفهوم كلي، أو صياغات كلية تساعد على فهم وتفسير السياق العام للتاريخ الإنساني. فهو كما اسماه كولنجوود: "التاريخ الذي يقوم على طريقة جمع المقتطفات". [88]

    أما أسطورة المنهج الاستقرائي أو منهج الملاحظة، الذي لا يسترشد بمقولة استنباطية أو لا يسبقه فرض معين، فقد أسقطها ثلاثة من كبار علماء الغرب أنفسهم، كارل بوبر واينشتاين وتشارلز دارون، في دراسة تفصيلية لكارل بوبر لا حاجة لنا لاستعراضها هنا سوى القول: أن الاستقراء دون أي فكرة مسبقة هو مجرد وهم. [89]

     وفي كل الأحوال، كانت جهود علماء الغرب في القرن 19 حلقة هامة من حلقات تطور المناهج العلمية، لدراسة التاريخ وما وصلت إليه في القرن العشرين.

 

 

 

المصادر والحواشي:

[1]. كولنجوود، ر. ج: فكرة التاريخ، ت: محمد بكير خليل، القاهرة 1968، ص 42-43؛ أحمد قائد الصايدي: منهج البحث التاريخي، صنعاء 1999م، ص27. وللمزيد عن منهج البحث التاريخي، أنظر أيضًا؛ لانجلوا وسينوبوس: المدخل إلى الدراسات التاريخية، في كتاب النقد التاريخي، ت: عبد الرحمن بدوي، الكويت 1977م. ويعرف البحث العلمي أنه حزمة من الطرائق والخطوات المنظمة والمتكاملة، التي تستخدم في تحليل وفحص المعلومات القديمة، بهدف الوصول إلى نتائج جديدة، وهذه الطرائق تختلف باختلاف أهداف البحث العلمي ووظائفه وخصائصه وأساليبه. وفي تعريف آخر إنه: "عملية فكرية منظمة يقوم بها شخص يسمى (الباحث) من أجل تقصي الحقائق في شأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى (موضوع البحث)، بإتباع طريقة علمية منظمة تسمى (منهج البحث)؛ بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشكلات المماثلة تسمى (نتائج البحث)". أنظر؛ (محمد مسعد ياقوت: البحث العلمي العربي: معوقات وتحديات، مجلة الجندول (الكترونية)، السنة الثالثة: العدد 24 سبتمبر 2005م. WWW.ULUMINSANIA.NET ). وكان المسلمون القدامى اتبعوا أسلوب التكلم عن مناهجهم في مقدمات كتبهم، أنظر على سبيل المثال: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي (ت505هـ): الاقتصاد في الاعتقاد. [ب. د]، ص 5. بل أن الأمام السخاوي (771هـ) وضع منهجية دقيقة لكتابة التاريخ قبل الأوروبيين بمئات السنيين. أنظر؛ (طبقات الشافعية الكبرى. [ب. د]، ج 2، ص 16). والنهج لغةً: الطريق، نهج: بين واضح. والنهج الطريق المستقيم. وفي حديث العباس: لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة، أي واضحة بينة. ونهجت الطريق سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان أي يسلك مسلكه). ابن منظور الإفريقي، جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711هـ/ 1311م): لسان العرب. [ب. د]، مادة نهج) والمنهج في أعم معانيه، وسيلة لتحقيق هدف وطريقة محددة لتنظيم نشاط معين (روزنتال وآخرون: الموسوعة الفلسفية، ت: سمير كرم، بيروت 1985، ص 502).

[2]. أحمد قائد الصايدي: منهج البحث، ص 29.

[3]. يستخدم المؤرخ الفلسفة لفهم و تفسير أحداث التاريخ ووقائعه، بينما يستخدم الفيلسوف التاريخ لتأكيد أو نفي نظرياته الفلسفية.

[4]. كانتور، نورمان ف: التاريخ الوسيط (قصة حضارة): البداية والنهاية، ت: قاسم عبده قاسم. [ب. د] القاهرة [ب. ت]، ص 17 

[5]. يذكر أنصار العلم التجريبي أنه يمتاز بعدة مميزات منها أنه يولد اليقين التام ، ومنها أنه يبرهن على حقائق لا يمكن الوصول إليها بغير طريق التجربة، ومنها أنه أقدر على اكتناه أسرار الطبيعة. أنظر؛ (عبد الرحمن بدوي: فلسفة العصور الوسطى، القاهرة 1979م، ص يج).

[6]. هردر: فيلسوف ورجل دين وشاعر ألماني. للمزيد انظر؛ (Herder, J. G, Another Philosophy of History and Selected Political Writings, Transluted Evrigenis, I. D. and Pellerin, D, Indianapolis 2004, pp. ix ff.)

[7]. كاسيرر، آرنست: في المعرفة التاريخية، ت: أحمد حمدي محمود، القاهرة 1997، ص 8 وما بعدها، بتصرّف؛ Hamilton, Paul, Historicism, London 1996, pp. 41 ff

[8]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 11؛ Leventha, R S. The Disciplines of Interpretation: Lessing, Herder, Berlin 1994, .p.164

[9]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 14.

[10]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، الاسكندرية 1975م، ص 29.

[11]. أختلف علماء النفس في العوامل المؤثرة والدافعة للسلوك الإنساني، هل هي البيئة والظروف المحيطة، أم العامل الوراثي، أو هي عوامل متداخلة بينهم تختلف بحسب ظروفها، أنظر؛ (سايمنتن، دين كيث: العبقرية والإبداع والقيادة، ت: شاكر عبد الحميد، الكويت 1993، ص 49-وما بعدها، بتصرّف).

[12]. كولونجوود: فكرة التاريخ، ص 171-وما بعدها، بتصرّف.

[13]. Pickering, M, Auguste comte: An Intellectual Biography, Cambridge, 1993, p 279 

[14]. The Dictionary of the History of Ideas, Virginia, 2003, Vol. 3, p305

[15]. Forster, M, "Johann Gottfried von Herder", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (winter 2001 Edition), Edward N. Zalta (ed.), http://plato.stanford.edu/archives/win2001/entries/herder/. سيأتي التعريف بهيجل ودلتاي لاحقًا.

[16]. كان أيضًا من منتقدي حركة التنوير، رواد الحركة الرومانتيكية الذي يعتبر هردر واحدًا منهم. حيث هاجموا تقديس العقل الطاغي، وقالوا انه منحط، لأن دوافعه كذلك، إذ يتحول إلى مجرد أداة لتحقيق الشهوات المنحرفة. وأن الأساس في الإنسان هو الأخلاق والقيم، الذي لا نفع للعقل دونهما. أنظر؛ (أحمد محمود صبحي؛ وصفا عبد السلام جعفر: في فلسفة الحضارة، بيروت 1999م، ص 172-181، بتصرّف).

[17]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، 26-وما بعدها، بتصرّف.

[18]. رانكهاشهر المؤرخين الألمان في القرن التسع عشر الميلادي. ويعتبره البعض مؤسس المنهج العلمي للتاريخ. ألف عدة كتب منها تاريخ الأمم اللاتينية والتوتونية. وفي هذه المؤلفات استخدم مصادر كانت تعد جديدة آنذاك مثل: المذكرات والمفكرات والرسائل والاستعانة بشهود عيان. (Krieger L, Ranke: The meaning of history, Chicago 1977).

[19]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23. عن الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية، أنظر؛ (عبد المالك التميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة. عالم الفكر، العدد 4، مج 29، الكويت إبريل-يونيو 2000م.

[20]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23؛ أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 35.  يعتبر التوجيه التربوي أحد أهم أهداف دراسة التاريخ، وأجل فوائده وأسماها. أنظر؛ (أحمد قائد الصايدي: مناهج البحث، ص 33-34).

[21]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 25. أنظر على سبيل المثال: Ranke, L.V., The Ecclesiastical and Political History of the Popes of Rome :During the Sixteenth and Seventeenth centuries, Translated from the Germany by Austin, S., in two volumes, Oxford,1841.

[22]. amron, E., Interpreting Christian History: the Challenge of the Churches past, Oxford, 2005, p153.

[23]. .Hughes, M, Fifty Key Thinkers on History, London, 2000, p 260

[24] .لامبرخت: مؤرخ ألماني وأستاذ جامعي له من الدراسات: تقدم معايير التطور التاريخي والغاية القديمة والحديثة للمعرفة التاريخية. ومنهج تاريخ الحضارة (للمزيد أنظر: كاسيرر: المعرفة التاريخية، 127 حاشية 2، 3، 4، 5، 6؛  Chickering R, Karl Lamprecht: a German academic life (1856-1915), New Jersey 1993.

[25]. ستأتي الدراسة عنه لاحقًا.

[26]. ياكوب بوركار:مؤرخ سويسري اختص بتاريخ الفن والحضارة، من مؤلفاته: (تأملات في تاريخ العالم)، و(حضارة النهضة في إيطاليا)، و(التاريخ الحضاري لليونان)،و كان مذهبه هو الحدس والخيال والتأمل في كتابه التاريخ أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125-126، حاشية 12-15؛ مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة (من ديكارت إلى هيوم)، الاسكندرية 2020م، ص 198)

[27]. ويكيبيديا، ليوبولد فون رانكه.

[28]. هيجلولد في 1787 في مدينة شتتيجرت الألمانية، درس الفلسفة واللاهوت ثم ركز دراسته أكثر في أعلام التصوف الألمان، عمل مدرسًا خصوصيًا، ثم مدرسًا في جامعة ييل، ثم في جامعة هيدلبرج وجامعة برلين، يعد أعظم الفلاسفة الألمان في عصره. (عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، بيروت 1984م، ج 2، ص 574 وما بعدها، بتصرّف).

[29]. المثالية  Idealismمن المثال وتعني في الإغريقية الصورة أو الفكرة، والفلسفة المثالية هي التي تقول أن أصل الوجود هو الفكر أو العقل أو الوعي، والمادة هي الثانوية. بينما الفلسفة المادية تقول إن المادة هي أصل الوجود، وأن الفكر أو الوعي هو انعكاس لها. (عبد المنعم حفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة 2000م، ص723-739، بتصرّف).

[30]. جميل صليبيا: المعجم الفلسفي. [ب. د] بيروت، ج 2، ص 310.

[31]. أنظر على سبيل المثال؛ ديورانت، ويل: أبطال من التاريخ، ت: سامي الكعكي وسمير كرم، بيروت 2001 ،ص227؛ سعيد عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة 1986م، ج 2، ص 371.

[32]. عبد المنعم حفني: المعجم الشامل ،249.أنظر على سبيل المثال: Hegel, G. W. F, The Philosophy Of History, Translated by J. Sibree, Kitchener 2001, pp 73, 79, 458

[33]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 209 وما بعدها، بتصرّف؛ رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، القاهرة 2000م، ص151 وما بعدها، بتصرّف؛ عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ص 2/ 588 وما بعدها، بتصرّف. أنظر أيضًا؛ إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، بيروت 1982م.

[34]. أنظر؛ عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/ 575 وما بعدها، بتصرّف.

[35]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، ص 222.

[36]. المرجع نفسه، ص 223.

[37]. رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، ص 170-172.

[38]. يعتبر البعض الجامعة والمدرسة الحديثة بنظامها القائم جزء من التراث الاستعماري للمنطقة العربية، حيث الاهتمام والتركيز فقط على العقل وإغفال الجانب الروحي والقلبي والسلوكي ومتطلبات النمو الوجداني للطالب، بعكس المدرسة في التاريخ الإسلامي حيث الاهتمام المتوازي بنمو العقل وبناء الروح، أو علوم العقل و تزكية النفس، أو القيم والتطبيق. أنظر على سبيل المثال؛ (محمد حسين الصافي: علماء التزكية ودورهم العلمي والدعوي في عهد الدولة الرسولية. مجلة الإكليل، العددان 30-36، يناير-يونيو 2010م، صنعاء، ص 43-44).

[39]. شاكير احمد السحمودي: مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث، جدة 2010م، ص 41-44.

[40]. المرجع نفسه، ص 44 وما بعدها، بتصرّف.

[41]. تومسون، كينيث: قادة الفكر الدولي في القرن العشرين، ت: حسين فوزي النجار. [ب. د]، القاهرة [ب. ت]، ص 4 وما بعدها، بتصرّف.

[42]. همبولت مؤرخ ألماني، له العديد من الدراسات منها: (مهمة الكتاب التاريخي)، و(تدهور الدولة الحرة اليونانية وسقوطها)، و(مشروع العلم الأنثروبولوجي المقارن)، و(تأملات حول تاريخ العالم). أنظر؛ (كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 121-122، حاشية 31، 36، 39، 41).

[43]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 29.

[44]. المرجع نفسه، ص 31-32.

[45]. اوجست كونتعلم اجتماع وفيلسوف اجتماعي، مؤسس الفلسفة الوضعية القائلة "لا سبيل إلى المعرفة إلا بالحواس والخبرة". (للمزيد أنظر؛ ويكيبيديا).

[46]. الفلسفة الوضعيةتعمى لدى كونت تعني الواقعي، والنسبي، والمعطى المباشر من التجربة. ويمكن تعريف المذهب الوضعي بأنه الفلسفة التي تعمل ضمن فلسفة العلوم الطبيعية؛ الكشف عن القوانين، والداعية إلى استخدام المناهج التجريبية في العلوم الإنسانية لتحقيق المعرفة العلمية. (عبد المنعم الحفني: المعجم الشامل، ص 943-944؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 220).

[47]. محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ج1. [ب. د] بيروت، ص 89.

[48]. حدد كونت لهذا العلم أربعة مناهج أساسية للبحث والمعرفة العلمية الوضعية، وهي: (الملاحظة، والتجربة، والمنهج المقارن، والمنهج التاريخي). والأخير حسب نظره هو أفضل وسائل البحث. (محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ص 89).

[49]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 35-36؛ ويد جيري: المذاهب، ص 26-265 ؛ كولونجوود: فكرة، ص 232 ؛ 236.  أنظر؛ أيضًا: Lewes, G H, The Biographical History of philosophy from It Origin Greece Down to the Present Day, New York,1857,pp776-784. لعل أبرز من استخدم المنهج المقارن هو الإنجليزي أرنولد توينبي، مع استخدام منهج آخر بجواره، وهو منهج دراسة العلاقة أو الاتصال بين الحضارات. وبموجب ذلك توصل إلى نظريته الفلسفية للتاريخ (التحدي والاستجابة). ولا ريب أنه تأثر في موضوع المنهج بمن سبقوه، خاصة أسوالد شبنغلر. (أنظر؛ توينبي، أرنولد: الحضارة في الميزان، ت: أمين محمود الشريف، دمشق 2006م، ص 216-217).

[50]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3. 20/12/2008.

[51]. الطيب بو عزة: الدين من المنظور الفلسفي الغربي، الفلسفة الوضعية نموذجًا، مجلة التسامح، العدد (26). مسقط 2009م، ص 62 وما بعدها، بتصرّف.

[52]. باسكيز، أضولفو: البنيوية والتاريخ، ت: مصطفى المسناوي، بيروت 1981م، ص10.

[53]. هنري توماس بكل: مؤرخ انجليزي، أشتهر بكتابه (تاريخ الحضارة في انجلترا). (أنظر؛ Wikipedia, Henry Thomas Buckle).

[54]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 36-37؛ ويدجيري: المذاهب، ص 268 وما بعدها، بتصرّف؛ كولنجوود: فكرة، ص 261.  Wikipedia, Henry Thomas Bukle.

[55]. ويدجيري: المذاهب، 268-وما بعدها؛ كولنجوود: فكرة، ص 261؛ Buckle, H. T, History of Civilization in England, .Oxford, 1858, p267 ff

[56]. لم تكن الغاية من دراسة التاريخ معرفة القوانين منهج سائد عند كل المؤرخين. فعلى سبيل المثال يشدد لانجلويس (ت 1929م) انه ليس على المؤرخ صياغة قوانين عامة، إذ الهدف هو فقط توضيح الحقيقة، فالتاريخ ليس علم ملاحظة بل هو علم كيفية معرفة ماذا حدث في الماضي من خلال المصادر غير المكتملة المتوفرة للمؤرخ. (Britannica, Historiography) .

[57]. تاين مؤرخ وفيلسوف وناقد فرنسي له العديد من المؤلفات مثل، فلسفة الفن وتاريخ الأدب الإنجليزي: ومقدمة التاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 123. حاشية 8 ،10، 15، Hippolyte Taine, Oxford 1972 L, Weinstein).

[58]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 37، 38. أصبح بعد ذلك الوصف، ثم التفسير، ثم التنبؤ، ثم السيطرة هي محاور العلم الأربعة المفترض توفرها في أي علم. إلا أن بعض العلوم لا تكتمل فيها هذه الشروط، مثل: علم الفلك أو علم الجيولوجيا، ولذلك يأتي السؤال هل التاريخ علم يحقق محاور العلم الأربعة؟ (انظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين، عالم المعرفة، الكويت ديسمبر 2000، ص 368).

[59]. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، بيروت 1984م، ج1، ص433.

[60]. أحمد محمود بدر: تفسير التاريخ من الفترة الكلاسيكية إلى الفترة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، العدد 4، مج 29، أبريل يونيو 2001، الكويت، ص27.

[61]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 38.

[62]. Mansfield, E, Art History and Its Institutions, London, 2002, p93

[63]. المنهج الاستقرائييبدأ بدراسة الجزئيات، ليصل منها إلى قوانين عامة أو صيغ عامة، ويعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة. وفي العلوم التطبيقية تكون الملاحظة خاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة، وذلك عكس المنهج الاستنباطي، حيث البدء بفرضية عامة، ثم محاولة اثباتها. أنظر؛ (محمد زيان عمر: البحث العلمي، مناهجه وتقنياته، القاهرة 2002، ص 48-49).

[64]. المعرفة التاريخية، ص 39 و ما بعدها. إذ يدعي الوضعيين أن الموضوعية في المنهج الاستقرائي، ويهاجمون المنهج الاستنباطي.

[65]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-وما بعدها.

[66]. المرجع نفسه، ص 46، 47.

[67]. دروسنمؤرخ وأستاذ جامعي ألماني له العديد من المؤلفات، منها: خلاصة التاريخ المنشور سنة 1864 (انظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 47، كولنجوود: فكرة، ص 295 ، 296 Droysen – Wikipedia). 

[68]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-48.

[69]. مومسنمؤرخ ألماني، حاصل على جائزة نوبل في الأدب، عمل أستاذاً للتاريخ الروماني في جامعة برلين. له عدة مؤلفات منها: نظام التربيونات الرومانية في النظام الإداري (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 124. حاشية 18،9؛ Wikipeia,theoodr mommsen).

[70]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 49-وما بعدها.

[71]. فولتيركاتب فرنسي اشتهر بعدائه للكنيسة والدين، أنظر؛ (Morley, John, Voltaire, and London 1923).

[72]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 55.

[73]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 6. من هؤلاء على سبيل المثال ديترشي شافر Schaefer D في كتابه: المهمة الحقيقية للتاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125، 46. حاشية رقم 2).

[74]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 57-58.

[75]. اليانسينيةنسبة إلى كورنيل يانسين (1585-1638)، رجل دين هولندي، أسس حركة دينية ضمن الفكر الكاثوليكي، نشطت ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ارتبطت الحركة بدير بورت رويال، ثم أصدرت بابوية روما عدة إدانات لها في عهد كل من البابا انسونت السابع وكليمنت الحادي عشر، متهمة الحركة بالزندقة (للمزيد أنظر؛ Doyle, W .,Jansenism, Sydney 2000).

[76]. رييل، وليم هنري: مؤرخ وصحفي ألماني من مؤلفاته: التأريخ الطبيعي للشعب الألماني (أنظر؛ Lehmann, H. and Melton, J. V. H.,  Paths of Continuity: Central European Historiography from the 1930s to the 1950s, Cambridge 2003, pp281 ff).

[77]. فرايتاج، جوستاف: أديب وسياسي ألماني له قصص تاريخية لشخصيات شعبية ( للمزيد عنه أنظر؛ Warner, C. D, A Library of the World’s Best Literature – Ancient and Modern, London 2008,Vol.xv,pp6011 ff).

[78]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 58-وما بعدها، بتصرّف.

[79]. دلتايفيلسوف ألماني ومؤرخ عمل مع آخرين على شق منهج جديد للعلوم الاجتماعية والإنسانية، مختلف عن منهج العلوم الطبيعية (أنظر؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، تحرير: مارك ر. بوبر، ترجمة: يمنى طريف الخولي، الكويت 2993، ص 292 حاشية 14ت، ويدجيري: المذاهب، 314).

[80]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3.20/12/2008. Hamilton, Historicism, pp70 ff                                                                           

[81]. عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/161.

[82]. آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية (حث في النظرية الألمانية للتاريخ)، ت: حافظ الجمالي، دمشق 1999م،  6-109، 298، بتصرّف، ويدجيري: المذاهب، ص 314. Kearney, R, Twentieth Century Continental Philosophy, .London,1994, p241 ff  لخص آرون المنهج التاريخي عند بعض المؤرخين الألمان كالتالي: تم عند "زيمل" توثيق الوقائع التاريخية، وعند "ريكيرت" اصطفاء هذه الوقائع، وعند "ماكس فيبر" الكشف عن العلاقات السببية، وعند "دلتاي" تكوين الجمل. (أنظر؛ آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية، ص 296).

[83]. بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 121.

[84]. المرجع نفسه، ص 122.

[85]. حركة الاستنارة: لم تكن فقط ضد سلطان الكنيسة، إنما أيضًا الدين "كيفما كان"، واعتبر فولتير نفسه قائداً لحملة استهدفت  القضاء على المسيحية، فقاتل تحت شعار “مَحق الباطل”، وكان الدين بنظرهم مجرداً من أية قيمة إيجابية (أنظر؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 148-150)، كما كانت قضايا التجسيد والثالوث المقدس والأساليب الكنسية من العوامل التي أدت إلى إبعاد المفكرين عن الدين (انظر؛ لانج، جيري: حتى الملائكة تسأل (عن قصة الإسلام في أمريكا)، ت: زين نجاتي، القاهرة 2002، ص 13،14).

[86]. أنظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم، ص 203 ،204، أنظر أيضًا؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 288حاشية 33م.

[87]. أنظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، قراءة في

المناهج الغربية  لتفسير التاريخ

في القرن 19م

 

       تمهيد:

      يتفق الباحثون على أهمية المنهج في البحث العلمي. لأن صحة وسلامة المنهج يؤدي إلى صحة وسلامة موضوع البحث المدروس ونتائجه.

      لأجل ذلك اهتم العلماء والباحثون في قضية المنهج العلمي لدراسة التاريخ، وجعلوا الحديث عنه مقدمة متعارف عليها، ومدخلًا إلى الأبحاث العلمية.  وإذا كان هؤلاء العلماء والباحثون اتفقوا على أن منهج البحث التاريخي هو طريقة جمع وتحليل الوثائق والمصادر التاريخية من خلال النقد والتحقيق. [1] إلا أنهم اختلفوا حول منهج التفسير، أو طريقة التفسير، ومن هنا تعددت مناهج تفسير التاريخ خلال القرنين السابقين؛ التاسع عشر والعشرون، و تباينت تباينًا كبيراً خاصة في أوروبا.

      ولهذا تأتي أهمية دراسة قضية المنهج العلمي. بل أن بعض الباحثين يعتبر أن "المنهج" هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم، لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث،  [2]ومنعًا للالتباس لابد من التوضيح والتفريق بين منهج البحث، ومنهج التفسير، وفلسفة التاريخ –أثناء هذه الدراسة- فالأول، هو وسيلة العمل و أداة وطريقة التنفيذ، وجمع المادة وتحليلها وتركيبها، والنقد والمقارنة، أما الثاني فهو المنهج الذي يتبعه الباحث لفهم، واستنطاق، وتفسير المادة التاريخية، أما فلسفة التاريخ فهي النتائج الفكرية ذات طابع التفسير الكلي، التي أخذ بها الباحث سواء بعد إنجاز بحثه، أو اعتنقها، بطريقة قبلية مسبقة. [3] وإن كان البعض يعتبر قضايا المنهج العلمي جزء من الفكر الفلسفي بشكل عام، إلا أننا نستطيع القول ان هذه الدراسة واسطة الاتصال بين حلقتين، هي: (منهج البحث، والنظرية الفلسفية)؛ أي حلقة مناهج التفسير.

      وتأتي أهمية القرن 19م أنه شهد عصر النهضة الصناعية والعلمية الكبرى في أوروبا، كمحصلة لحركة الاستعمار العالمية. كما شهد تغيرات سياسية واجتماعية هامة. على أن التحول الحقيقي كان في الفكر، والثقافة، والصراع الفكري الذي دار بين المثاليين والماديين، وبين الوضعيين والتاريخانيين، وفي اختلاف المناهج وتعددها، وما نتج عن هذا الصراع. كما سوف نرى في هذه الدراسة.

 

      أهداف البحث:

    يهدف البحث إلى معرفة التجربة الأوروبية في مجال مناهج تفسير التاريخ، التي ظهرت في القرن 19م، والكشف عن الفوارق بينها، وظروف نشأتها واستخداماتها. وهو قرن شهد ثراءً كبيراً في مجال النهضة العلمية في أوروبا، خاصة في مجال المناهج، كما شهد صراعًا واختلافًا بين المفكرين الأوروبيين حول فهم وتفسير التاريخ

 

      أهمية البحث:

      تكمن أهمية البحث أنه يكشف عن حقل معرفي هام في مجال الدراسات التاريخية، وهو "مناهج التفسير" التي تختلف عن منهج البحث، وعن نظريات فلسفة التاريخ. الشيء الذي سوف يساعد الباحثين في اختيار واستخدام هذه المناهج، مما يعزز من علمية الدراسات التاريخية، مع اعتراف الباحث أن كل منهج منها يستحق دراسة كاملة عنه، حيث لا زال الفكر التاريخي بحاجة إلى أمثال هذه الدراسات.

 

      الدراسات السابقة:

    للأسف لم يقف الباحث على دراسات سابقة في هذا الموضوع، سوى دراسة تقترب نوعًا منه، وهي دراسة لكاسيرر آرنست بعنوان (في المعرفة التاريخية). ولهذا لم تكن كافية، رغم أهميتها. إضافة إلى بعض الدراسات حول فلسفة التاريخ، على أن الحديث عن مناهج التفسير أتى عرضيًا ضمن الحديث على بعض النظريات الفلسفية.

        

      منهج البحث:

   يتبع البحث المنهج الوصفي التحليلي ضمن جمع مفرق، لغرض الوصول إلى تحقيق أهداف البحث السالفة الذكر.

 

     تاريخ ونظريات مناهج تفسير التاريخ:

     يعتبر بعض الباحثين أن المنهج العلمي هو أحد تراث العصور الوسطى. [4] إلا أننا سوف نبدأ في استعراضنا الوصفي لهذه الدراسة من العصر الحديث. وخاصة بعد ما سمى (عصر التنوير)، حيث علا شأن العلوم التجريبية وفلسفتها وهيمنتها على الحياة العلمية في أوروبا. [5] مما سبب في رد فعل بعض الفلاسفة على هذا التوجه، ومنهم هردر الذي حاول التفريق بين منهج يدرس الطبيعة، وآخر يدرس الإنسان وتاريخه.

 

       هردر: المنهج الذاتي (لا يفهم الروح إلا الروح):

      كان منهج جون هردر (1744-1803م) [6] لدراسة التاريخ، هو المنهج الذاتي، والفهم العاطفي للحياة الباطنية للآخرين، من خلال المنهج التحليلي، وذلك بناءً على نظرته للتاريخ والكون

      ينظر هردر إلى التاريخ الإنساني كما جاء في كتابه (من فلسفة التاريخ إلى الحضارة الإنسانية) أن التاريخ لا تتحكم فيه النزعة العملية الخاصة بإنجاز الأفعال، بل كإنسان ذي مشاعر. وعلى ذلك لم ينظر إلى مجموع أفعاله كما يفعل المؤرخون، بل إلى ديناميكية مشاعره. وجميع الأفعال الإنسانية السياسية، والفلسفية، والدينية، والفنية، لا تمثل إلا الجانب الخارجي من الإنسان.  [7]

      كما أن الإنسان ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالكون المادي المحيط به، كونه وضع على هيئة كائن حي يسمح بخلق كائنات حية عليا فيه، تنمو وتتطور في داخله، لتبلغ مبلغ النضج الكامل، أو أسمى مراتب الخلق. فالإنسان بهذا هو حلقة بين عالمين؛ العالم الطبيعي –الكون المادي– الذي نشأ منه، والعالم الروحي الذي يخرج إلى حيز الوجود المادي في هذا الهيكل الإنساني، لأن وجوده الروحي يتخذ شكل قوانين روحية تظهر آياتها على الأرض، والتاريخ: "مسرح يبين دور الله في رعاية الإنسان على الأرض، وكل شيء يجري في هذا المسرح لغاية ما؛ بالرغم من أننا لن نستطيع أن نرى الغاية النهائية. أنه مسرح تظهر فيه العناية الإلهية فقط، من خلال ثغرات وأجزاء متناثرة من المشاهد الفردية". [8] ولذلك فان هردر لا يرى في التاريخ مجرد المجرى الخارجي للأحداث، بل يسعى إلى رؤية روحه؛ الروح الكامنة خلف الأقنعة و الحجاب. وكل جزء من الأجزاء لا يعتبر جزء فحسب، بل أن الكل يحيا في بعضه البعض، ولهذا توصف فلسفة هردر أنه تفسير روحي للتاريخ، حيث لا يفهم الروح إلا الروحظ. [9] وبما أن الكون كائن حي، فالتاريخ هو أفعال هذا الكائن. ولذلك لا يمكن فهم روح الأمة وشخصيتها بمنهج العلوم الطبيعية، التي لا تبين سوى المظهر الخارجي للأحداث. أما روح التاريخ وباطنه فلا يمكن التعرف عليه، إلا من خلال الروح الداخلية للإنسان، التي تستطيع أن تكشف روح العصر. [10]

      كان هردر يشعر بأهمية نظرته الذاتية، إلى درجة أنه زها بتمكنه من قراءة التوراة، كما لم يقرأها أحد من قبل، فالتوراة بعد قراءته أصبحت كتابًا مقدسًا، كشف عنه بعد عدة قرون من الغموض كما يدعي.

      ويبدو المنهج الذاتي واضحًا في فكر هردر، عندما جعل من أوروبا مركز تاريخ العالم، وأعطى الجنس الأوربي أعلى مراتب التقدير في التاريخ الإنساني. كما أن نظريته تستند إلى أن الخصائص السيكولوجية المتوارثة في التكوين هي أساس الفوارق بين الأوضاع الاجتماعية، والسياسية للأجناس البشرية المختلفة.  [11] وهي نظرية بررت للتعصب القومي. [12] إلا أن بعض الباحثين يرون أن هردر أراد تأسيس المنهج العلمي لفلسفة التاريخ [13] .كما أن الكثير منهم يقرون بتأثيره الكبير على تاريخ فلسفة التاريخ وتطورها. [14] وتأثيره على الفلاسفة، أمثال هيجل ودلتاي. [15] وما نستطيع أن نقوله: أن فكره الفلسفي بلا شك كان له التأثير الأول في اتخاذه هذا المنهج.

      على أن بهذا الفكر والمنهج كان هردر يعتبر رائد، رفض فكر ما سمى بعصر التنوير [16] . الذي انقلب على الكنيسة والمسيحية. كذلك كان رائد فكر استقلال المنهج التاريخي، عن مناهج العلوم الطبيعية.  [17]

 

       رانكه: المنهج الموضوعي (وصف ما كان كما كان):

      يعتبر ليبولد فون رانكه1795-1886 [18] (رائد المنهج الوصفي الموضوعي للتاريخ، فهو وإن كان متأثراً في تفسير وفهم التاريخ إلى حد ما بفكر هردر، إلا أن منهجه كان مختلفًا تمامًا. وهو منهج "وصف ما كان كما كان"، والبدء بالبحث التاريخي دون أحكام مسبقة "الموضوعية الكافية"، وبالاستناد إلى مصادر معاصرة لحقبة موضوع الدراسة، مصراً على أنه ينبغي للمؤرخ ألا يضيف لمادته شيئًا بقصد زيادة سحرها الجمالي، أو سعيًا وراء إحداث تأثير بلاغي؛ أي كان منهجه المنهج الوصفي، والدعوة إلى الموضوعية التامة دون أي تأثير، أو تدخل من المؤرخ نفسه. أو الانحياز إلى أي طرف، أو الدفاع عن أي برامج دينيه أو قوميه أو سياسية، ووصف من يفعل ذلك بأنهم ليسوا مؤرخين، بل مجرد "كتاب نشرات". وبهذا قامت فكرة الموضوعية التاريخية عند رانكه على مثل هذا الفصل بين الذات، والموضوع، أو الشخصي والواقعي. محاولًا عدم التعبير عن الاهتمام بصوره ذاتية، أو شخصيه لكل الأحداث التاريخية، التي وصفها [19] . 

      كما كان رأيه أن التاريخ لا ينبغي أن يكون مصاغًا بطريقه توجيهية تربوية مباشرة، حيث يمكن أن تتحقق هذه الأهداف من خلال الوقائع المجردة والأفكار، ودون تدخل المؤرخ نفسه. [20] والجدير بالذكر أن الوصف كان من أهم مناهج المعرفة في نظرية المعرفة، بشكل عام منذ التاريخ القديم، وخاصة عند اليونان.

     وربما لا نستطيع فهم منهجه إلا من خلال قراءة فلسفته، فإنه وإن كان يعارض كل فلسفة تأمليه للتاريخ، فإنه كان يؤمن بالفهم الكلي لحركة التاريخ، وعالمية وكلية المتغيرات التاريخية. فالتاريخ لم يكن عنده مجرد سلسلة من الأحداث المنعزلة، بل كان أحداثًا محكمة، متبادلة التأثير، وصراعا محكمًا بين القوى الروحية، وكان لكل من هذه القوى معنى محدد عنده، وقد أسماها "أفكار الله".

      فالتاريخ لا يقدم مشهدًا لأحداث مجردة كما يبدو للنظرة الأولى، ولا رؤية للدول والشعوب القائمة بالغزو أو الهجوم، والتي يتلوا بعضها بعضًا، فهناك في الحقيقة قوى روحية تفيض بالحياة، وهي قوى خلاقة، إنها "الحياة" نفسها. وهناك طاقات أخلاقية نراها هي بدورها في التاريخ. ولا يمكن لهذه الطاقات أن تعرف، أو أن تفهم مجردة، بالرغم أننا نستطيع أن نراها وأن ندركها. ويستطيع أي شخص أن يدرب نفسه على الشعور بوجودها. إنها تنمو وتسيطر على العالم، وتظهر نفسها في كثير من الصور المتنوعة، كما أنها تتحدى بعضها البعض، ويحد بعضها البعض، ويتغلب بعضها على بعض. ويكمن السر الكامل لتاريخ العالم في تلاقي هذه القوى، وفي انتقالها، واستمرارها، وتلاشيها، وعودتها للحياة مرة ثانية. هذه الأشياء تعني أن هذه القوى تستطيع أن تحقق كمال أعظم. [21] ورغم أن معظم عمل رانكه والأكثر أهمية كان في تاريخ الكنيسة، [22] إلا أن المنهج الذي اتخذه عُد نموذجًا للمنهج التاريخي. [23]

      على أنه وجهت انتقادات عديدة إلى فكر ومنهج رانكة من بعض المعاصرين له، ومن تلاهم من المؤرخين، منها أنه حول التاريخ إلى سجل جاف فاقد لبعده الأدبي، حيث أصبح مجرد سجل للحقائق المؤيدة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع. كما أخُذ عليه انه كان متعصبًا للدولة البروسية، ومناهضًا لكل حركات التحرر التي قامت في أوروبا في عصره. ومن أبرز منتقديه لامبرخت، [24] ودروسن، [25] وياكوب بوركارت، [26] الذي كان تلميذاً لرانكه نفسه. [27]

 

      المنهج الجدلي:

     يعد من أهم وأشهر مناهج التفسير للتاريخ، برز في القرن التاسع عشر على يد هيجل (1770-1831)، [28]  رائد الفكر المثالي، [29] في أوروبا. ثم اخذ عنه هذا المنهج (كارل ماركس) أهم فيلسوف للفكر المادي أيضًا. وعلى ذلك فالمنهج الجدلي نموذج لمنهج تفسيري، يمكن أن تستند إليه نظريتان متضادتان تمامًا في تفسير التاريخ، وهما التفسيرين المثالي والمادي.

  والجدل Dialectic في معناه اليوناني يشير إلى تصادم الآراء المتقابلة، بقصد معرفة الحقيقة أو طريقة الإقناع. واستعمله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس Heraclites بمعنى الصراع، والتغير المستمر في الطبيعة. [30] واشتغل به بعض الفلاسفة الغربيين. [31] على أن هيجل طور هذا المعنى، فاعتبر الجدل عبارة عن القضية والنقيض لها، ثم مركبهما، وأنه قانون الوجود والطبيعة والفكر والمجتمع، وأن الجميع في حالة صيرورة وتغير وتحول دائم بحسب تركيب منطقه.   [32]

      تقوم نظرية هيجل في تفسير التاريخ على مبدأ "وحدة الوجود"، إذ لا موجود إلا للمطلق الواحد، ذو الوحدة المطلقة، التي لا تعتمد على شيء خارج عنها. وعلى ذلك لا توجد أي ثنائية بين عالم المثال وعالم الواقع، حيث الفكر والوجود وحدة مطلقة.

    والمطلق الذي هو روح العالم هو المسير الحقيقي لكل شيء، وحركة التاريخ ما هي إلا سعي الروح الكلية لتحقيق وعيها الذاتي بحريتها. والحرية هنا بمفهوم قدرتها على تحقيق كل شيء. وأسلوب المطلق لتحقيق ذلك هو المنهج الجدلي حيث الصيرورة تبدأ من القضية أو الموضوع، ثم نقيضه ثم المركب لهما. هذا المنطق هو الذي يحكم حركة التاريخ، وهو الذي يفسر كل شيء.

      والمثال التقليدي للجدل هو حبة القمح التي تنمو، فينبثق منها الساق، فتنتفي كبذرة وينمو القمح ويحمل السنابل، عندها يهلك الساق، وهذا هو نفي النفي، أو مركب النقيضين. على أن حبات القمح في السنابل تحمل خصائص البذرة الأولى وهكذا.

       وعلى ذلك فإن حركة التاريخ هي صراع الأضداد، حيث لا تكشف الروح عن نفسها إلا من خلال صراع. ومن ثم فإن الجدل هو سر حركة التاريخ. [33] ومذهب هيجل من التعقيد بحيث يحتاج إلى مزيد من الشرح، وقد ألتف حول النظرية الكثير من الأنصار، وحازت على الكثير من الدراسات والاهتمام، ومثلت قمة الفكر المثالي في أوروبا.

   ولا نعرف إذا كان هذا المنهج سبق النظرية والفكرة عند هيجل، أم أن النظرية هي التي صنعت هذا المنهج التفسيري. على أنه سرعان ما أخذ عنه هذا المنهج كارل ماركس، ليضع نظريته المادية في تفسير التاريخ. لكن ماركس وإنجلز أسقطا العمق والجوهر المثالي عن المنهج الجدلي، واعتبروا أن جدل هيجل كان واقفًا على رأسه وليس على قدميه بسبب فكره المثالي، ثم ألبسوا المنهج لباسًا ماديًا لتفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية على حد سواء. وهو الشيء الذي عده بعض المفكرين تشويهًا للهيجلية وسوء فهم لها. [34] ومع ذلك فإن ماركس وإنجلز اعترفا بالفضل لهيجل، حيث يشير إنجلز عن الجدل الهيجلي أنه عمل لم يضطلع به أحد منذ أرسطو سواه، بل أنه أعظم ما أنجزته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. [35]

      لقد أعجب ماركس وإنجلز بالمنهج الجدلي لأنهم رأوا فيه منهج يستطيع أن يفسر مجرى التطور والتغير المستمر في المجتمع وفي الطبيعة، كـ "حركة دائمة"، وذلك عكس المناهج الأخرى ذات النظرة الاستاتيكية الجامدة.   [36]

  ثم وضع ماركس قوانين تشكل منهجه في تفسير التاريخالقانون الأول، التغير من الكم إلى الكيف، سواء في عالم الطبيعة أو عالم الإنسان. والقانون الثاني، تداخل الأضداد وصراعها. والقانون الثالث، نفي النفي، وكلها قوانين تفسر حركة الطبيعة والمجتمع من منظور التفسير المادي. [37] وهكذا فالجدل منهج يفسر كل شيء-حتى الفكر-أنه يتطور من الأدنى إلى الأرقى، نتيجة التناقضات الداخلية التي تعمل فيه.

      وإذا كانت الفلسفة هي إبداع العقل البشري في الفهم، إلا أن هذا العقل يتطرف أحيانًا بعيداً في جانب محدد، ويغفل كل الجوانب الأخرى، وذلك كما فعل ماركس وإنجلز في تفسيرهما المادي للتاريخ، عندما وضعا العامل الاقتصادي والحاجة المادية للإنسان وصراع الطبقات، العامل الوحيد المفسر للتاريخ.

      ثم لم يلبث أن وصلت التأثيرات الفكرية الأوروبية إلى الساحة العربية. [38] فأخذ بعض الباحثين تطبيق المنهج الجدلي المادي في دراسة تاريخ الإسلام وفكره، وألبسوا نظرية صراع الطبقات على تفاصيل التاريخ العربي، فقالوا أن أبا ذر ومجموعة من الصحابة كانوا يساريين، ومعاوية وآخرون من التيار اليميني. أو تقسيم آخر؛ الأشاعرة والفقهاء كانوا رجعيين، بينما ابن رشد والمعتزلة تقدميين عقلانيينويرى أصحاب هذا المنهج أن الإسلام-فكراً وتاريخًا-ما هو إلا نتاج العلاقات الاقتصادية كحتمية تاريخية لا بديل عنها. وأنه انعكاس لتحولات أسلوب الإنتاج والتبادل داخل المجتمع العربي.  [39]

      على أنه يلاحظ أن الدعاة إلى هذا المنهج خرجوا برؤى متباينة، وتطبيقات مخالفة عن بعضهم البعض. الشيء الذي يصبغ الذاتية على أبحاثهم ودراساتهم ذات المنظور الماركسي للتاريخ الإسلامي.   [40]

 

       منهج همبولت (الوصف الخلاق):

      أصبح منهج رانكة من الناحية العملية مهيمنًا على الكثير من المؤرخين، [41] مثل همبولت،  [42] الذي يقول مع رانكه [43] أن مشكلة المؤرخ هي أن يذكر ما حدث فعلًا، فإن الوصف المباشر هو الطلب الأول والجوهري الذي يطلب منه، كما أنه أسمى ما يستطيع أن يحققه". وإذا أتبعنا هذه النظرة فيبدو أن ما يقوم به المؤرخ هو الاستيعاب فقط، وأن يكرر، لا أن يعمل عملًا مستقلًا جديدًا وخلاقًا.

      وبذلك يتفق مع رانكه في أن منهج المؤرخ هو الوصف، ولكنه يختلف حول أن مهمة المؤرخ في حاجة إلى تعاون دائم، مع الخيال الخلاق، الذي يستطيع وحده ربط الوقائع المنفصلة والموزعة في نطاق واسع وفي وحدة حقيقية. ولكن من الواجب ألا ينطلق خيال المؤرخ بعيدًا عن الأحداث الفعلية. ولكن التأمل والتجربة هي أوجه مختلفة للعقل المدرك للتاريخ.

       أما فلسفة همبولت فهي تشير إلى أن الظواهر الجزئية لوقائع التاريخ، تظهر دوامًا معينًا، ونظامًا وخضوعًا للقانون. والتاريخ بصرف النظر عما يتراءى من مظهره المتحرك، وتعدد نواحيه، يشبه "آله ميكانيكية" تخضع لقوانين ميتة، لا تتبدل، كما أنه يخضع لدفع قوى ميكانيكية. [44] ولكن بالمقابل رفض همبولت أي غائية أو هدف محدد سواء كان بشري أو سماوي، مدعيًا أن القوى الدافعة للتاريخ، هي بصفة رئيسية "القوى الإنتاجية" و"الحضارة" و"القصور الذاتي" للإنسان. ولذلك لا يعترف سوى بقوى الطبيعة الإنسانية فقط، ولا شيء سواهاورغم اتفاقه مع رانكه حول المنهج الوصفي، إلا أن الأخير اختلف عنه في نظرته للعوامل المحركة للتاريخ، فهي بالنسبة لهمبولت "قوى إنسانية"، بينما عند رانكه سر إلهي. ولعل هذا نموذج للاتفاق في المنهج، والاختلاف في الفكر الكلي.

 

      أوجست كونت (المنهج الوضعي):

   لكن سرعان ما ظهر اتجاه الاستخدام الوظيفي والغائي للمنهج التاريخي. وتمثل ذلك في أوجست كونت (1798 -1857) [45] الذي أعتبر نفسه مؤسس المذهب الوضعي، وعلم الاجتماع. [46] وملخص مذهبه الدعوة إلى استخدام مناهج العلوم الطبيعية في دراسة العلوم الإنسانية.

    والغاية من استخدام المنهج الوضعي، هو البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، ولا يمكن أن يقتصر على مجرد سرد الحوادث. وهدف هذا المنهج هو الوصول إلى التنبؤ من اجل السيطرة والتحكم. [47] والكشف عن فكرة التقدم في التاريخ واعتبار أن الإنسان كائن حي، مثل باقي الكائنات. ولذلك فهو خاضع للقوانين التي تتحكم في الطبيعة الحية. وكل ما قيل في طبيعة الإنسان الروحية، باعتبارها شيئًا لا يخضع للوجود الحيواني، وأحواله هو مجرد وهم. وعلى المنهج الوضعي نبذ ذلك. زاعمًا أنه اكتشف القانون العام للتطور، الذي تنشا منه فلسفة، أو منهج كلي حقيقي للتاريخ. كما أن التطور الاجتماعي الذي تصوره، ما هو إلا استمرار للتطور البيولوجي الحاصل في بقية الكائنات الحية.

  وبالتقسيم المنهجي الذي وضعه كونت جعل مهمة المؤرخين هي فقط توثيق الوقائع التاريخية، [48] والتأكد منها عن طريق النقد والتحليل، بينما مهمة الكشف عن قوانين حركة التاريخ، تركت لعلماء الاجتماع، حسب زعمه. [49]

   ونستطيع القول انه هيمن على القرن التاسع عشر نزعة تنكر الدين، وتؤمن بإمكانية تفسير كل الظواهر باختلاف أنواعها وتعددها من خلال المنهج التجريبي فقط، واستسلم مفكرو هذا العصر وفلاسفته لسيطرة نموذج فيزياء نيوتن القائم على التجربة، وتم تعميم أسس المنهج الوضعي لتشمل العلوم الإنسانية. وكان من نتائج ذلك، أن تم اختزال الظواهر الإنسانية في جوانبها الحسية والفيزيائية، وإسقاط كل ما هو غيبي من هذا الوجود، حتى أصبح لم يعد هناك فرق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية. كما تم تجريد العلم من كل قيمة أخلاقية، والتركيز بطرح سؤال الوسائل دون سؤال الأهداف والغايات، ذلك أن “الحالة الوضعية تقوم أساسا على اعتبار الظواهر خاضعة للقوانين، وأن مهمة البحث العلمي هي العمل على الكشف عن هذه القوانين؛ أي بيان شروط وجود الظواهر، لا أسبابها الأولى والأخيرة. إن المهم والأساسي–في نظر أوجست كونت – هو بيان كيف يحدث الشيء، لا البحث في لماذا حدث. [50] وبهذا تتحول أهداف الدراسات التاريخية من محاولة الإجابة على السؤال "لماذا"، إلى الإجابة على "كيف حدث". فالعلم حسب نظره دراسة العلاقات السببية للظواهر وليس دراسة الماهيات للظواهر ذاتها. وبهذا فقدت النزعة العلمية التي يدعيها كونت فهم غائية الوجود والتاريخ والإنسان. [51] وربما نستطيع القول إن الوضعية لم تكن سوى رد فعل على المثالية الألمانية ومنهجها التأملي، [52] وهو ما يؤكد التفسير الجدلي للتاريخ الفكري لأوروبا؛ إذ عندما يسود تيار فكري معين، لا يلبث أن ينشأ آخر مضاد له وهكذا.

 

        هنري بكل (المنهج الإحصائي لكشف قوانين التاريخ):

      كان المنهج الإحصائي هو المنهج العلمي الذي دعا إليه واتخذه المؤرخ الإنجليزي هنري توماس بكل (ت1862م) [53] ليثبت من خلال هذا المنهج أن لا شيء مصادفة في التاريخ الإنساني، وأن التاريخ يخضع لقوانين صارمة شبيهة بقوانين الطبيعة، موضحًا على سبيل المثال: أن عدد الجرائم التي تقترف كل عام تخضع لقوانين رياضية صارمة مثل أية ظاهره طبيعية.

     وكانت النتيجة هي الدمج بين التاريخ وعلم الطبيعة حسب رأي بعض الباحثين، حيث لا شيء يخلو من النظام الطبيعي وحتميته الصارمة. وأن الحرية المزعومة للإرادة الإنسانية هي "وهم". وبذلك فإن بكل أزال كل الفوارق بين العالم الاجتماعي وعالم الطبيعة، وبين الأخلاق وعلم الطبيعة. بل الوقوف موقف الوسط بين العالم الميتافيزيائي والعالم الفيزيائي، حيث يؤكد: "أن توطيد شروط هذا التحالف، يعني تحديد الأساس الذي يعتمد عليه كل التاريخ". [54]

      ولكنه يؤكد أن فكرة الرفاه البشري مرتبط بشكل أكبر بالمعرفة العقلية، فالظواهر الطبيعية والأخلاق، أقل تأثيرًا من تأثير المعرفة، وبهذا فإن التقدم مرتبط بالعبقريات الفردية إلى حد كبير. ولذلك تمسك بالقول ان معرفة قوانين العلاقات الاجتماعية هو قبل كل شيء يجب أن يكون موضوع البحث التاريخي. [55]

     ولا يمكن معرفة القوانين العقلية التي تنظم تقدم المجتمع إلا من خلال (المنهج الإحصائي)، المستند إلى مسح شامل للبيانات. ذلك لأن المناخ والتربة والغذاء والسمات الأساسية للطبيعة، هي الأسباب الأساسية للتقدم الثقافي كما يقول. [56]

 

    تاين (الوصف ثم التفسير):

     أما منهج الوصف ثم التفسير أو جمع الوثاق، ثم البحث بعد ذلك عن العلل، فقد كان المنهج الذي دعا إليه المؤرخ الفرنسي تاين (1828–1893م)، [57] الذي حاول التخلص من هيمنة الفكر المثالي الهيجلي. على أساس أن تلك الوقائع أو الظواهر تتحدث عن نفسها، وتفسر نفسها بنفسها، والتخلص من أي معايير أو أحكام مسبقة أو قبلية أو الشعور بأي تعاطف شخصي أو نفور؛ أي أن على المؤرخ الحياد الكامل أو عدم الانحياز. [58] والسعي إلى استخدام المناهج الوضعية لدراسة التاريخ. [59] ولأجل ذلك فهو يتفق مع "بكل" في استخراج القوانين المنظمة للتاريخ. [60]

  إلا أن الفارق بينه وبين كل من رانكه وهمبولت هو التبسيط الشديد لتفسير وقائع التاريخ، الذي اعترف به تاين نفسه، حيث يشير إلى أن: "الدافع الكامن وراء كل أبحاثه هو العثور على تعبير غير معقد يفسر الأحداث العظيمة التعقيد". [61] ولأجل ذلك كان تاين يصر أن منهجه هذا هو المنهج العلمي الصحيح لدراسة التاريخ. [62]

     ولأجل نقد وتقييم تاين، تساءل المؤرخ كاسيرر هل كانت التصورات أو التفسيرات التي قدمها تقوم بناء على المنهج الاستقرائي أم الاستنباطي؟ [63] ليكشف أنه لم يلتزم بحرفية منهجه المدعي-الاستقرائي، بل شابت تصوراته كثيرًا من التفاسير المستنبطة، وهو ما يسقط الموضوعية التي يدعيها ويناقض منهجه المزعوم. [64]

     على أية حال، ظل تاين يؤيد النظرة الفردية في التاريخ؛ أي أن الفرد هو بداية التاريخ وغايته، ومنبع كل معرفه حقيقة، حيث يقول" :لا يوجد أي شيء إلا من خلال الفرد، أنه الفرد نفسه الذي يجب أن يفهم (..) اتركوا إذن نظرية الدساتير، القوانين، والتفسير الآلي لتركيبها، ونظرية الدين وأنساقها، و بدلًا من هذه الأشياء، حاولوا مشاهدة الناس في مصانعهم ومكاتبهم وحقولهم، كما يعيشون تحت الشمس، فوق أرضهم و في بيوتهم (..)، انظروا إلى ما يأكلون، وما الذي يرتدون. فهذه الخطوة الأولى في التاريخ". [65]

 

      دروسن (تعدد المناهج):

      ثم لم يلبث بعد ذلك أن ظهر جيل جديد من المؤرخين، لا يقتنعون بمناهج رانكه ومعاصريه ومن تلاهم من المؤرخين. ولكن سيطرت عليهم التوجهات السياسية، فوضعوا منهجا جديدًا في الدراسة التاريخية وهو تحديد أهداف مسبقة للدراسة، محدده ومشخصه بدقة، وذلك لتحقيق الاغراض السياسية التي تقام لأجلها الدراسة التاريخية؛ أي الاستخدام السياسي للدراسات التاريخية. على أن ذلك لم يسبب سوى نزاع جديد، حول ما هي الأهداف السياسية الجديدة، التي يجب أن تحدد للدراسة التاريخية. [66]

   ومن هذه المدرسة الواقعية السياسية في ألمانيا أو مدرسة التاريخ السياسي يوهان دروسن (1808-1884م)، [67] الذي هاجم بكل في كتابة (تاريخ الحضارة في بريطانيا) بشكل تفصيلي، و هو لم ينتقد فقط جعل التاريخ علما بل هاجم كذلك كل المناهج المستخدمة آنذاك في دراسة التاريخ، فالتاريخ يثير أسئلة لا يستطيع -كما يقول- التأمل الفلسفي أو اللاهوتي الإجابة عليها، أو العلم التجريبي الذي يدرك عالم الظواهر من ناحية علاقاته الكمية فقط، أو المنهج الاستنباطي أو المنهج الاستقرائي، كذلك لا يمكن الإجابة على أسئلة التاريخ باستخدام اصطلاحات الطبيعة الرياضية، ويقول دروسن أن المناهج تختلف وفقا لموضوعاتها. ولذلك أصر على تأييد كثرة المناهج وتعددها في دراسة التاريخ، ولكن ركز أكثر على فكرة الفهم، وجعلها محورُا للمعرفة التاريخية. وفكرة الفهم هذه هي التي بدأ منها بعد ذلك دلتاي تشخيص فردية المعرفة التاريخية. كما سوف نرى. [68]

 

      منهج ثيودور مومسن:

     أما ثيودر مومسن (1817-1903م)، [69] فإنه وإن كان ينتمي إلى مدرسة التاريخ السياسي، إلا أنه أضاف إليها منهجًا مهمًا في دراسة التاريخ، وهو أنه لا يتأتى فهم النظام السياسي، والحياة السياسية في الدولة، إلا باستكمال دراسة جوانبها (التشريعية والقانونية)، ودراسة النقود، والمخطوطات القديمة. كما تميز منهجه لدراسة التاريخ، بضرورة التعاطف الوثيق مع الشخصية التاريخية المدروسة، حبًا أو كراهية، ولابد من إطلاق مشاعر وخيال المؤرخ أيضاً، ولأجل ذلك نظر مومسن إلى التاريخ ليس كعلم بل كفن، لا يمكن للباحث فيه إلا أن يمتلك مواهبه الخاصة بذلك.

     كما أعطى مومسن معرفة اللغات، وتحقيق النصوص والمخطوطات أولوية المنهج التاريخي، وذلك للوصول إلى ما أسماه روح التاريخ، وهو بهذا يقترب كثيراً من رانكه. ثم دعا إلى أسلوب منهجي جديد آنذاك، وهو العمل التعاوني، حيث رأى أن كاتبًا واحدًا بمفرده لن يستطيع الاضطلاع بأعباء البحث التاريخي، ولأجل ذلك من الضروري تنظيم العمل بين الموهوبين، على أن يأتي بعد ذلك دور المؤرخ الفذ بطابعه الفردي وعبقريته الخاصة به. [70]

 

        بين التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري:

      يستطيع باحث التاريخ اليوم أن يقف على جوانب نزاع طويل في القرن التاسع عشر، نشب بين أنصار التاريخ السياسي، والتوظيف السياسي للتاريخ، وأنصار التاريخ العام للحضارة ومنهم مؤرخو التاريخ الاقتصادي، وكان باحثو تاريخ الحضارة يستندون إلى حدٍ ما للأسس التي وضعها قبل ذلك فولتير Voltaire (1694-1778م)، [71] الذي أدرك قصور الدراسات التاريخية المقتصرة على السياسة وحدها، لذلك أشار إلى أن التاريخ لا يكون فقط سجلاً من المعارك والعمليات العسكرية، أو المؤامرات السياسية، ولكن عليه توضيح النشاط الفكري بأكمله، فإلى جانب الأحداث السياسية، عليه أن يرسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية لكل عصر، إضافة إلى عرض للحياة الأخلاقية بكاملها في ذلك العصر، [72] إذ أن التاريخ بالنسبة له هو قصة تقدم العقل البشري.

   ورغم ذلك ظل تاريخ الحضارة كموضوع للدراسات التاريخية، موضوع هجوم مستمر من كثير من المؤرخين العاملين في مجال الدراسات التاريخية في القرن التاسع عشر، من حيث المنهج والموضوع، وان بالإمكان للصور الحضارية أن تصاحب دراسة الأحداث السياسية، ولكن ليس أكثر من ذلك. [73]

     على أن أنصار التاريخ الحضاري لم يبذلوا جهداً في الدفاع عن منهجهم في دراسة التاريخ، ولذلك يذكر ابرهارت جوتهاين (1853-1923م)، تعذر فهم طبيعية الدولة وتطورها فهمًا كافيًا، بقصر النظر إليها من ناحية واحدة. ولابد من فهم العوامل الأخرى خاصة القانون والاقتصاد والدين والعلم والفن والآداب.

    ويلاحظ المستعرض لهذا النـزاع إلى أن المقارنة بين الاتجاهين في كتابه التاريخ، لم تكن في صالح مدرسة التاريخ الحضاري، سواء من ناحية المنهج أو المصادر المعتمدة للدراسات، فكتابه التاريخ السياسي تستند إلى تاريخ طويل من العمل العلمي في هذا المجال، وأسس منهجيه واضحة. بينما كتابه التاريخ الحضاري، والتاريخ الاقتصادي يفتقر إلى مثل هذا، وإلى المصادر الكلاسيكية المتخصصة في هذا المجال. [74]

    على أية حال لم تكن أوضاع دراسات التاريخ الحضاري ذات أتساق واحد في أوروبا، ففي بريطانيا استمر فكر فولتير عن معنى تاريخ الحضارة وقيمته، وهو أن المحك الحقيقي لتقدم الحضارة هو تقدم المنهج والفكر، فالتاريخ ليس مجرد سرد، بل ينبغي أن يشرح السياق الفكري بأكمله ورسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية وأن يقدم نظرة عامة للحياة الخلقية بأسرها في العصر. وفي فرنسا استخدمت جميع مناهج التحليل النفسي آنذاك لدراسة تاريخ حركة دينية هي اليانسينية، [75] وانتشارها، وفي دراسة تاريخ الفن. أما في ألمانيا، اتبع كل من رييل (1823-1897)، [76] وفرايتاج، [77] منهج مختلف في كتابه التاريخ الحضاري، حيث الاستغراق في التفاصيل الصغيرة، ورسم مشاهد الحياة اليومية، لتكون صورة تاريخية كبيرة عند تجميعها. [78]

 

     دلتاي الفهم وتكوين الجمل (مجمل الفترة التاريخية):

     حين كانت المدرسة الفرنسية الوضعية مثل أوجست كونت تحاول مماثلة منهج دراسة التاريخ مع مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية، وكانت الفلسفة الوضعية تهيمن على الجامعات الألمانية، حتى نهاية القرن التاسع عشر، ظهر ويلهلم دلتاي (1822-1911م)، [79] يكتب فلسفته ومنهجه في التاريخ، حيث دعا إلى وضع حدود فاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ولهذا رفض أطروحات الوضعيين الذين يريدون استخدام مناهج العلوم الطبيعية والفيزيائية في الدراسات الإنسانية؛ إذ أن هدف المناهج الطبيعية الوصول إلى قوانين عامة، بينما الدراسة التاريخية تهدف إلى فهم واقعة مفردة غير متكررة. ولهذا استخدم دلتاي مصطلح الفهم بدلًا عن مفهوم التفسير، حيث أن العلم يعلل بينما الدراسات الإنسانية تتفهم الحياة أو التجربة [80] العلم الطبيعي موضوعه الطبيعة بينما التاريخ موضوعه الإنسان، ولهذا لابد للمؤرخ أن يكون قادرًا على أن يفهم من الداخل الأسباب والأغراض والانفعالات للأشخاص موضوع الدراسة التاريخية. [81]

       كما يرتكز منهج دلتاي في دراسة التاريخ على ما أسماه تكوين الجمل Totalities، والجمل تعني هنا مجموع سمات عهد ما، ووصفه من جميع جوانبه. حيث لا يمكن أن نفهم المجتمع والتاريخ إلا من خلال هذا المنهج، فالوقائع التاريخية–حسب زعمه–لا يمكن أن تفهم من خلال قوانين تشبه قوانين الفيزياء، وبالتالي لا يمكن أن نستخدم مناهج الطبيعة الفيزيائية لدراسة الوقائع التاريخية .ولهذا يشير دلتاي إلى أن الإنسان لن يصل إلى الإحاطة بمجموع الكون، كما أنه لن يصل بقانون واحد أو وحيد إلى تلخيص صيرورة الحياة التي لا تنقطع ولا إلى التنبؤ بمستقبلها. ورغم أن دلتاي كان يردد باستمرار أن المحيط الطبيعي يكيف حياة الإنسان كما أن الطبيعة هي مسرح الوجود الإنساني، وشرطه، إلا أنه يقول إنها ليست شرحاً له، ولا تملك مفاتيحه، وعلى ذلك لأجل الوصول إلى الحقيقة العلمية، لابد من الاستناد إلى اليقين المباشر والتجربة، كما لا يمكن أن نفهم التاريخ، إلا بالنظريات، ولا النظريات إلا بالتاريخ.    

     والعلاقة بين النظرية والتاريخ هو أن نبين العلاقة بين المعرفة المنتظمة وبين الوصف التاريخي. [82]

 

       خاتمة (نظرة نقدية):

      يعتبر النقد وسيلة مهمة لتطوير مناهجنا العلمية وأدواتنا المعرفية، ولا يقصد بالنقد هنا مجرد إظهار للعيوب، ولكن كما يقول فيلسوف المنهج العلمي في أوروبا كارل بوبر: "يتوقف نمو المعرفة خصوصًا "العلمية"، [83] على التعلم من أخطائنا". ويقول أيضًا" :منهج العلم هو منهج المناقشة النقدية". [84] فالنقد هو أحد أدوات المنهج العلمي للتطوير، والإصلاح، والتقدم العلمي.

      كانت البداية لظهور المناهج الغربية، هو الانقلاب على الدين والكنيسة، [85] لذلك ظل الكثير منها خلال القرون التالية مجرد تراث لهذا الارتداد، مع الاستمرار في محاولة تجريد العلم من أي صفة إيمانية، مما جعله بطبيعة الحال في حالة تضاد مع المؤمنون، فتراوح المنهج بين اللادينية والفكر اللاهوتي المسيحي، الذي لم يبتعد عن فكرة المخلص للسيد المسيح، في حركة جدلية استمرت حتى القرن العشرين، بظهور نظرية أرنولد توينبي في التاريخ.

       تعددت المناهج تعددًا واضحًا، كما رأينا، وكانت التأثرات متبادلة بين المنهج والفكر التاريخي نفسه، فتارة كان يؤثر المنهج بطبيعة الحال على نتائج الفكر الفلسفي، وتارة أخرى كان الفكر الفلسفي المسبق–القبلي–هو من يحدد المنهج والأسلوب

      ولقد بذل العلماء جهود كبيرة للوصول إلى منهج معرفي يحقق أعلى درجات الدقة ومعرفة الحقيقة، والاستفادة من التاريخ. إلا أن المنهج الذاتي يكاد يفقد علميته وأمانته، بتدخل الباحث وشخصيته دون قيد، مما يجعله عرضه للأهواء. أما ما يسمى بـ "المنهج الموضوعي"، لا يصل بالباحث إلى نتيجة، سوى وصف ما كان كما كان، وهو مالا يتحقق إلا نسبيًا. وبالتالي لا يحقق محاور العلم الأربعة (الوصف، التفسير، التنبؤ، والسيطرة)، كما أنه يجعل من المؤرخ مجرد عامل أرشيف –إذا نجح في وصف ما كان كما كان–أو مجرد موثق، فيفقد علم التاريخ بهذا صفته الإيجابية، والقدرة على الاستفادة منه لفهم الحاضر، ومعرفة توجهات المستقبل.

      وكانت نظرية النسبية لإينشتاين أثبتت أن الذات العارفة هي طرف في معادلة الطبيعة إذ أن موقع الشخص وسرعته معينات أساسية في المعادلة الرياضية في تفسير عمليات الكون. [86] وبهذا يسقط وهم الموضوعية سقوطاً لا رجعة عنه. فمكان وزمان الباحث التاريخي–كما ثبت علميا–إضافة إلى خلفياته الفكرية والنفسية، يحددان اتجاهات كتاباته. وهو الشيء-على سبيل المثال-الذي تنبه له ادوارد سعيد في دراسته للاستشراق ومحاولات الباحث الغربي دراسة الشرق. [87] وأيضًا مما يمكن أن يؤخذ على هذا المنهج هو تركيزه على الوسيلة وإغفال الغاية أو النتيجة النهائية، أي التركيز على دراسة الجزئيات دون الخروج إلى مفهوم كلي، أو صياغات كلية تساعد على فهم وتفسير السياق العام للتاريخ الإنساني. فهو كما اسماه كولنجوود: "التاريخ الذي يقوم على طريقة جمع المقتطفات". [88]

    أما أسطورة المنهج الاستقرائي أو منهج الملاحظة، الذي لا يسترشد بمقولة استنباطية أو لا يسبقه فرض معين، فقد أسقطها ثلاثة من كبار علماء الغرب أنفسهم، كارل بوبر واينشتاين وتشارلز دارون، في دراسة تفصيلية لكارل بوبر لا حاجة لنا لاستعراضها هنا سوى القول: أن الاستقراء دون أي فكرة مسبقة هو مجرد وهم. [89]

     وفي كل الأحوال، كانت جهود علماء الغرب في القرن 19 حلقة هامة من حلقات تطور المناهج العلمية، لدراسة التاريخ وما وصلت إليه في القرن العشرين.

 

 

 

المصادر والحواشي:

[1]. كولنجوود، ر. ج: فكرة التاريخ، ت: محمد بكير خليل، القاهرة 1968، ص 42-43؛ أحمد قائد الصايدي: منهج البحث التاريخي، صنعاء 1999م، ص27. وللمزيد عن منهج البحث التاريخي، أنظر أيضًا؛ لانجلوا وسينوبوس: المدخل إلى الدراسات التاريخية، في كتاب النقد التاريخي، ت: عبد الرحمن بدوي، الكويت 1977م. ويعرف البحث العلمي أنه حزمة من الطرائق والخطوات المنظمة والمتكاملة، التي تستخدم في تحليل وفحص المعلومات القديمة، بهدف الوصول إلى نتائج جديدة، وهذه الطرائق تختلف باختلاف أهداف البحث العلمي ووظائفه وخصائصه وأساليبه. وفي تعريف آخر إنه: "عملية فكرية منظمة يقوم بها شخص يسمى (الباحث) من أجل تقصي الحقائق في شأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى (موضوع البحث)، بإتباع طريقة علمية منظمة تسمى (منهج البحث)؛ بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشكلات المماثلة تسمى (نتائج البحث)". أنظر؛ (محمد مسعد ياقوت: البحث العلمي العربي: معوقات وتحديات، مجلة الجندول (الكترونية)، السنة الثالثة: العدد 24 سبتمبر 2005م. WWW.ULUMINSANIA.NET ). وكان المسلمون القدامى اتبعوا أسلوب التكلم عن مناهجهم في مقدمات كتبهم، أنظر على سبيل المثال: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي (ت505هـ): الاقتصاد في الاعتقاد. [ب. د]، ص 5. بل أن الأمام السخاوي (771هـ) وضع منهجية دقيقة لكتابة التاريخ قبل الأوروبيين بمئات السنيين. أنظر؛ (طبقات الشافعية الكبرى. [ب. د]، ج 2، ص 16). والنهج لغةً: الطريق، نهج: بين واضح. والنهج الطريق المستقيم. وفي حديث العباس: لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة، أي واضحة بينة. ونهجت الطريق سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان أي يسلك مسلكه). ابن منظور الإفريقي، جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711هـ/ 1311م): لسان العرب. [ب. د]، مادة نهج) والمنهج في أعم معانيه، وسيلة لتحقيق هدف وطريقة محددة لتنظيم نشاط معين (روزنتال وآخرون: الموسوعة الفلسفية، ت: سمير كرم، بيروت 1985، ص 502).

[2]. أحمد قائد الصايدي: منهج البحث، ص 29.

[3]. يستخدم المؤرخ الفلسفة لفهم و تفسير أحداث التاريخ ووقائعه، بينما يستخدم الفيلسوف التاريخ لتأكيد أو نفي نظرياته الفلسفية.

[4]. كانتور، نورمان ف: التاريخ الوسيط (قصة حضارة): البداية والنهاية، ت: قاسم عبده قاسم. [ب. د] القاهرة [ب. ت]، ص 17 

[5]. يذكر أنصار العلم التجريبي أنه يمتاز بعدة مميزات منها أنه يولد اليقين التام ، ومنها أنه يبرهن على حقائق لا يمكن الوصول إليها بغير طريق التجربة، ومنها أنه أقدر على اكتناه أسرار الطبيعة. أنظر؛ (عبد الرحمن بدوي: فلسفة العصور الوسطى، القاهرة 1979م، ص يج).

[6]. هردر: فيلسوف ورجل دين وشاعر ألماني. للمزيد انظر؛ (Herder, J. G, Another Philosophy of History and Selected Political Writings, Transluted Evrigenis, I. D. and Pellerin, D, Indianapolis 2004, pp. ix ff.)

[7]. كاسيرر، آرنست: في المعرفة التاريخية، ت: أحمد حمدي محمود، القاهرة 1997، ص 8 وما بعدها، بتصرّف؛ Hamilton, Paul, Historicism, London 1996, pp. 41 ff

[8]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 11؛ Leventha, R S. The Disciplines of Interpretation: Lessing, Herder, Berlin 1994, .p.164

[9]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 14.

[10]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، الاسكندرية 1975م، ص 29.

[11]. أختلف علماء النفس في العوامل المؤثرة والدافعة للسلوك الإنساني، هل هي البيئة والظروف المحيطة، أم العامل الوراثي، أو هي عوامل متداخلة بينهم تختلف بحسب ظروفها، أنظر؛ (سايمنتن، دين كيث: العبقرية والإبداع والقيادة، ت: شاكر عبد الحميد، الكويت 1993، ص 49-وما بعدها، بتصرّف).

[12]. كولونجوود: فكرة التاريخ، ص 171-وما بعدها، بتصرّف.

[13]. Pickering, M, Auguste comte: An Intellectual Biography, Cambridge, 1993, p 279 

[14]. The Dictionary of the History of Ideas, Virginia, 2003, Vol. 3, p305

[15]. Forster, M, "Johann Gottfried von Herder", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (winter 2001 Edition), Edward N. Zalta (ed.), http://plato.stanford.edu/archives/win2001/entries/herder/. سيأتي التعريف بهيجل ودلتاي لاحقًا.

[16]. كان أيضًا من منتقدي حركة التنوير، رواد الحركة الرومانتيكية الذي يعتبر هردر واحدًا منهم. حيث هاجموا تقديس العقل الطاغي، وقالوا انه منحط، لأن دوافعه كذلك، إذ يتحول إلى مجرد أداة لتحقيق الشهوات المنحرفة. وأن الأساس في الإنسان هو الأخلاق والقيم، الذي لا نفع للعقل دونهما. أنظر؛ (أحمد محمود صبحي؛ وصفا عبد السلام جعفر: في فلسفة الحضارة، بيروت 1999م، ص 172-181، بتصرّف).

[17]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، 26-وما بعدها، بتصرّف.

[18]. رانكهاشهر المؤرخين الألمان في القرن التسع عشر الميلادي. ويعتبره البعض مؤسس المنهج العلمي للتاريخ. ألف عدة كتب منها تاريخ الأمم اللاتينية والتوتونية. وفي هذه المؤلفات استخدم مصادر كانت تعد جديدة آنذاك مثل: المذكرات والمفكرات والرسائل والاستعانة بشهود عيان. (Krieger L, Ranke: The meaning of history, Chicago 1977).

[19]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23. عن الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية، أنظر؛ (عبد المالك التميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة. عالم الفكر، العدد 4، مج 29، الكويت إبريل-يونيو 2000م.

[20]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 23؛ أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 35.  يعتبر التوجيه التربوي أحد أهم أهداف دراسة التاريخ، وأجل فوائده وأسماها. أنظر؛ (أحمد قائد الصايدي: مناهج البحث، ص 33-34).

[21]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 25. أنظر على سبيل المثال: Ranke, L.V., The Ecclesiastical and Political History of the Popes of Rome :During the Sixteenth and Seventeenth centuries, Translated from the Germany by Austin, S., in two volumes, Oxford,1841.

[22]. amron, E., Interpreting Christian History: the Challenge of the Churches past, Oxford, 2005, p153.

[23]. .Hughes, M, Fifty Key Thinkers on History, London, 2000, p 260

[24] .لامبرخت: مؤرخ ألماني وأستاذ جامعي له من الدراسات: تقدم معايير التطور التاريخي والغاية القديمة والحديثة للمعرفة التاريخية. ومنهج تاريخ الحضارة (للمزيد أنظر: كاسيرر: المعرفة التاريخية، 127 حاشية 2، 3، 4، 5، 6؛  Chickering R, Karl Lamprecht: a German academic life (1856-1915), New Jersey 1993.

[25]. ستأتي الدراسة عنه لاحقًا.

[26]. ياكوب بوركار:مؤرخ سويسري اختص بتاريخ الفن والحضارة، من مؤلفاته: (تأملات في تاريخ العالم)، و(حضارة النهضة في إيطاليا)، و(التاريخ الحضاري لليونان)،و كان مذهبه هو الحدس والخيال والتأمل في كتابه التاريخ أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125-126، حاشية 12-15؛ مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة (من ديكارت إلى هيوم)، الاسكندرية 2020م، ص 198)

[27]. ويكيبيديا، ليوبولد فون رانكه.

[28]. هيجلولد في 1787 في مدينة شتتيجرت الألمانية، درس الفلسفة واللاهوت ثم ركز دراسته أكثر في أعلام التصوف الألمان، عمل مدرسًا خصوصيًا، ثم مدرسًا في جامعة ييل، ثم في جامعة هيدلبرج وجامعة برلين، يعد أعظم الفلاسفة الألمان في عصره. (عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، بيروت 1984م، ج 2، ص 574 وما بعدها، بتصرّف).

[29]. المثالية  Idealismمن المثال وتعني في الإغريقية الصورة أو الفكرة، والفلسفة المثالية هي التي تقول أن أصل الوجود هو الفكر أو العقل أو الوعي، والمادة هي الثانوية. بينما الفلسفة المادية تقول إن المادة هي أصل الوجود، وأن الفكر أو الوعي هو انعكاس لها. (عبد المنعم حفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة 2000م، ص723-739، بتصرّف).

[30]. جميل صليبيا: المعجم الفلسفي. [ب. د] بيروت، ج 2، ص 310.

[31]. أنظر على سبيل المثال؛ ديورانت، ويل: أبطال من التاريخ، ت: سامي الكعكي وسمير كرم، بيروت 2001 ،ص227؛ سعيد عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة 1986م، ج 2، ص 371.

[32]. عبد المنعم حفني: المعجم الشامل ،249.أنظر على سبيل المثال: Hegel, G. W. F, The Philosophy Of History, Translated by J. Sibree, Kitchener 2001, pp 73, 79, 458

[33]. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص 209 وما بعدها، بتصرّف؛ رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، القاهرة 2000م، ص151 وما بعدها، بتصرّف؛ عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ص 2/ 588 وما بعدها، بتصرّف. أنظر أيضًا؛ إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، بيروت 1982م.

[34]. أنظر؛ عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/ 575 وما بعدها، بتصرّف.

[35]. أحمد محمود صبحي: فلسفة التاريخ، ص 222.

[36]. المرجع نفسه، ص 223.

[37]. رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، ص 170-172.

[38]. يعتبر البعض الجامعة والمدرسة الحديثة بنظامها القائم جزء من التراث الاستعماري للمنطقة العربية، حيث الاهتمام والتركيز فقط على العقل وإغفال الجانب الروحي والقلبي والسلوكي ومتطلبات النمو الوجداني للطالب، بعكس المدرسة في التاريخ الإسلامي حيث الاهتمام المتوازي بنمو العقل وبناء الروح، أو علوم العقل و تزكية النفس، أو القيم والتطبيق. أنظر على سبيل المثال؛ (محمد حسين الصافي: علماء التزكية ودورهم العلمي والدعوي في عهد الدولة الرسولية. مجلة الإكليل، العددان 30-36، يناير-يونيو 2010م، صنعاء، ص 43-44).

[39]. شاكير احمد السحمودي: مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث، جدة 2010م، ص 41-44.

[40]. المرجع نفسه، ص 44 وما بعدها، بتصرّف.

[41]. تومسون، كينيث: قادة الفكر الدولي في القرن العشرين، ت: حسين فوزي النجار. [ب. د]، القاهرة [ب. ت]، ص 4 وما بعدها، بتصرّف.

[42]. همبولت مؤرخ ألماني، له العديد من الدراسات منها: (مهمة الكتاب التاريخي)، و(تدهور الدولة الحرة اليونانية وسقوطها)، و(مشروع العلم الأنثروبولوجي المقارن)، و(تأملات حول تاريخ العالم). أنظر؛ (كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 121-122، حاشية 31، 36، 39، 41).

[43]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 29.

[44]. المرجع نفسه، ص 31-32.

[45]. اوجست كونتعلم اجتماع وفيلسوف اجتماعي، مؤسس الفلسفة الوضعية القائلة "لا سبيل إلى المعرفة إلا بالحواس والخبرة". (للمزيد أنظر؛ ويكيبيديا).

[46]. الفلسفة الوضعيةتعمى لدى كونت تعني الواقعي، والنسبي، والمعطى المباشر من التجربة. ويمكن تعريف المذهب الوضعي بأنه الفلسفة التي تعمل ضمن فلسفة العلوم الطبيعية؛ الكشف عن القوانين، والداعية إلى استخدام المناهج التجريبية في العلوم الإنسانية لتحقيق المعرفة العلمية. (عبد المنعم الحفني: المعجم الشامل، ص 943-944؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 220).

[47]. محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ج1. [ب. د] بيروت، ص 89.

[48]. حدد كونت لهذا العلم أربعة مناهج أساسية للبحث والمعرفة العلمية الوضعية، وهي: (الملاحظة، والتجربة، والمنهج المقارن، والمنهج التاريخي). والأخير حسب نظره هو أفضل وسائل البحث. (محمود عوده: تاريخ علم الاجتماع، ص 89).

[49]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 35-36؛ ويد جيري: المذاهب، ص 26-265 ؛ كولونجوود: فكرة، ص 232 ؛ 236.  أنظر؛ أيضًا: Lewes, G H, The Biographical History of philosophy from It Origin Greece Down to the Present Day, New York,1857,pp776-784. لعل أبرز من استخدم المنهج المقارن هو الإنجليزي أرنولد توينبي، مع استخدام منهج آخر بجواره، وهو منهج دراسة العلاقة أو الاتصال بين الحضارات. وبموجب ذلك توصل إلى نظريته الفلسفية للتاريخ (التحدي والاستجابة). ولا ريب أنه تأثر في موضوع المنهج بمن سبقوه، خاصة أسوالد شبنغلر. (أنظر؛ توينبي، أرنولد: الحضارة في الميزان، ت: أمين محمود الشريف، دمشق 2006م، ص 216-217).

[50]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3. 20/12/2008.

[51]. الطيب بو عزة: الدين من المنظور الفلسفي الغربي، الفلسفة الوضعية نموذجًا، مجلة التسامح، العدد (26). مسقط 2009م، ص 62 وما بعدها، بتصرّف.

[52]. باسكيز، أضولفو: البنيوية والتاريخ، ت: مصطفى المسناوي، بيروت 1981م، ص10.

[53]. هنري توماس بكل: مؤرخ انجليزي، أشتهر بكتابه (تاريخ الحضارة في انجلترا). (أنظر؛ Wikipedia, Henry Thomas Buckle).

[54]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 36-37؛ ويدجيري: المذاهب، ص 268 وما بعدها، بتصرّف؛ كولنجوود: فكرة، ص 261.  Wikipedia, Henry Thomas Bukle.

[55]. ويدجيري: المذاهب، 268-وما بعدها؛ كولنجوود: فكرة، ص 261؛ Buckle, H. T, History of Civilization in England, .Oxford, 1858, p267 ff

[56]. لم تكن الغاية من دراسة التاريخ معرفة القوانين منهج سائد عند كل المؤرخين. فعلى سبيل المثال يشدد لانجلويس (ت 1929م) انه ليس على المؤرخ صياغة قوانين عامة، إذ الهدف هو فقط توضيح الحقيقة، فالتاريخ ليس علم ملاحظة بل هو علم كيفية معرفة ماذا حدث في الماضي من خلال المصادر غير المكتملة المتوفرة للمؤرخ. (Britannica, Historiography) .

[57]. تاين مؤرخ وفيلسوف وناقد فرنسي له العديد من المؤلفات مثل، فلسفة الفن وتاريخ الأدب الإنجليزي: ومقدمة التاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 123. حاشية 8 ،10، 15، Hippolyte Taine, Oxford 1972 L, Weinstein).

[58]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 37، 38. أصبح بعد ذلك الوصف، ثم التفسير، ثم التنبؤ، ثم السيطرة هي محاور العلم الأربعة المفترض توفرها في أي علم. إلا أن بعض العلوم لا تكتمل فيها هذه الشروط، مثل: علم الفلك أو علم الجيولوجيا، ولذلك يأتي السؤال هل التاريخ علم يحقق محاور العلم الأربعة؟ (انظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين، عالم المعرفة، الكويت ديسمبر 2000، ص 368).

[59]. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، بيروت 1984م، ج1، ص433.

[60]. أحمد محمود بدر: تفسير التاريخ من الفترة الكلاسيكية إلى الفترة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، العدد 4، مج 29، أبريل يونيو 2001، الكويت، ص27.

[61]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 38.

[62]. Mansfield, E, Art History and Its Institutions, London, 2002, p93

[63]. المنهج الاستقرائييبدأ بدراسة الجزئيات، ليصل منها إلى قوانين عامة أو صيغ عامة، ويعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة. وفي العلوم التطبيقية تكون الملاحظة خاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة، وذلك عكس المنهج الاستنباطي، حيث البدء بفرضية عامة، ثم محاولة اثباتها. أنظر؛ (محمد زيان عمر: البحث العلمي، مناهجه وتقنياته، القاهرة 2002، ص 48-49).

[64]. المعرفة التاريخية، ص 39 و ما بعدها. إذ يدعي الوضعيين أن الموضوعية في المنهج الاستقرائي، ويهاجمون المنهج الاستنباطي.

[65]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-وما بعدها.

[66]. المرجع نفسه، ص 46، 47.

[67]. دروسنمؤرخ وأستاذ جامعي ألماني له العديد من المؤلفات، منها: خلاصة التاريخ المنشور سنة 1864 (انظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 47، كولنجوود: فكرة، ص 295 ، 296 Droysen – Wikipedia). 

[68]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 40-48.

[69]. مومسنمؤرخ ألماني، حاصل على جائزة نوبل في الأدب، عمل أستاذاً للتاريخ الروماني في جامعة برلين. له عدة مؤلفات منها: نظام التربيونات الرومانية في النظام الإداري (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 124. حاشية 18،9؛ Wikipeia,theoodr mommsen).

[70]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 49-وما بعدها.

[71]. فولتيركاتب فرنسي اشتهر بعدائه للكنيسة والدين، أنظر؛ (Morley, John, Voltaire, and London 1923).

[72]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 55.

[73]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 6. من هؤلاء على سبيل المثال ديترشي شافر Schaefer D في كتابه: المهمة الحقيقية للتاريخ (أنظر؛ كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 125، 46. حاشية رقم 2).

[74]. كاسيرر: المرجع نفسه، ص 57-58.

[75]. اليانسينيةنسبة إلى كورنيل يانسين (1585-1638)، رجل دين هولندي، أسس حركة دينية ضمن الفكر الكاثوليكي، نشطت ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ارتبطت الحركة بدير بورت رويال، ثم أصدرت بابوية روما عدة إدانات لها في عهد كل من البابا انسونت السابع وكليمنت الحادي عشر، متهمة الحركة بالزندقة (للمزيد أنظر؛ Doyle, W .,Jansenism, Sydney 2000).

[76]. رييل، وليم هنري: مؤرخ وصحفي ألماني من مؤلفاته: التأريخ الطبيعي للشعب الألماني (أنظر؛ Lehmann, H. and Melton, J. V. H.,  Paths of Continuity: Central European Historiography from the 1930s to the 1950s, Cambridge 2003, pp281 ff).

[77]. فرايتاج، جوستاف: أديب وسياسي ألماني له قصص تاريخية لشخصيات شعبية ( للمزيد عنه أنظر؛ Warner, C. D, A Library of the World’s Best Literature – Ancient and Modern, London 2008,Vol.xv,pp6011 ff).

[78]. كاسيرر: المعرفة التاريخية، ص 58-وما بعدها، بتصرّف.

[79]. دلتايفيلسوف ألماني ومؤرخ عمل مع آخرين على شق منهج جديد للعلوم الاجتماعية والإنسانية، مختلف عن منهج العلوم الطبيعية (أنظر؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، تحرير: مارك ر. بوبر، ترجمة: يمنى طريف الخولي، الكويت 2993، ص 292 حاشية 14ت، ويدجيري: المذاهب، 314).

[80]. علي صديقي: إشكالية المنهج في الدراسات الإنسانية والأدبية. http://www.odabasham.net/print.php?sid=22315&cat=#_edn3.20/12/2008. Hamilton, Historicism, pp70 ff                                                                           

[81]. عبد الرحمن بدوي: الموسوعة الفلسفية، ص 2/161.

[82]. آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية (حث في النظرية الألمانية للتاريخ)، ت: حافظ الجمالي، دمشق 1999م،  6-109، 298، بتصرّف، ويدجيري: المذاهب، ص 314. Kearney, R, Twentieth Century Continental Philosophy, .London,1994, p241 ff  لخص آرون المنهج التاريخي عند بعض المؤرخين الألمان كالتالي: تم عند "زيمل" توثيق الوقائع التاريخية، وعند "ريكيرت" اصطفاء هذه الوقائع، وعند "ماكس فيبر" الكشف عن العلاقات السببية، وعند "دلتاي" تكوين الجمل. (أنظر؛ آرون، ريمون: فلسفة التاريخ النقدية، ص 296).

[83]. بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 121.

[84]. المرجع نفسه، ص 122.

[85]. حركة الاستنارة: لم تكن فقط ضد سلطان الكنيسة، إنما أيضًا الدين "كيفما كان"، واعتبر فولتير نفسه قائداً لحملة استهدفت  القضاء على المسيحية، فقاتل تحت شعار “مَحق الباطل”، وكان الدين بنظرهم مجرداً من أية قيمة إيجابية (أنظر؛ كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 148-150)، كما كانت قضايا التجسيد والثالوث المقدس والأساليب الكنسية من العوامل التي أدت إلى إبعاد المفكرين عن الدين (انظر؛ لانج، جيري: حتى الملائكة تسأل (عن قصة الإسلام في أمريكا)، ت: زين نجاتي، القاهرة 2002، ص 13،14).

[86]. أنظر: يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم، ص 203 ،204، أنظر أيضًا؛ بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 288حاشية 33م.

[87]. أنظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ت: محمد عناني، القاهرة 2008، ص57.

[88]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 405، أنظر أيضًا؛ عبد المالك الئميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة، ص 39-وما بعدها.

 .[89]بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 124ت: محمد عناني، القاهرة 2008، ص57.

[88]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 405، أنظر أيضًا؛ عبد المالك الئميمي: الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية المعاصرة، ص 39-وما بعدها.

 .[89]بوبر، كارل: أسطورة الإطار، ص 124

تعليقات

المشاركات الشائعة