تاريخ الحروب الصليبية على ضوء فلسفة التاريخ

 


   مقدمة:

      المعنى الحرفي لكلمة الفلسفة هو حب الحكمة كما هو معروف. ولكن المعنى المقصود بعلم الفلسفة أنه العلم الذي يبحث في ماهية الوجود وماهية المعرفة ومناهجها. ويعرف ابن رشد الفلسفة، فيقولليست أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، اعني من جهة ما هي مصنوعات، فان الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها." [1]

      وبهذا يقدم تعريف الفيلسوف المسلم الذي يجعل النظر لأجل معرفة الله عز وجل. على أن الفلاسفة اليونان يختلفون معه في هذا التعريف. فجل تعريفهم لها أنها البحث في الموجودات لمعرفة حقائق الأشياء. وبهذا فان الفلسفة هي فهم الأشخاص لقضية الوجود والحياة والمعرفة. فعندما نقول فلسفة أفلاطون أي فهم أفلاطون لقضايا الوجود والحياة والحقيقة. ولهذا تختلف الفلسفة حتى بين الأستاذ وتلميذه مثل أفلاطون وأرسطو. لأنها تعتمد على الفهم الشخصي لكل منهم. وهذا بطبيعة الحال يختلف عن الفهم الرباني لقضية الوجود والحياة والحقيقة من خلال إخبار الرسالات السماوية.

     إن فلسفة التاريخ مهمة بالنسبة للمؤرخ لأنها أداة تساعده على فهم وتفسير حركة التاريخ. وهي ضرورة للخروج من دراسة الجزئيات إلى فهم الكليات، وبدونها يكون المؤرخ مجرد مدون للأحداث ليس إلا.

      على أن محاولات الخروج من الجزئيات إلى الكليات تعتبر أحد أهم التحديات التي تواجه الباحثين في التخصصات العلمية كافة، وفي مجال علم التاريخ لابد للباحث في هذه الناحية من الاستعانة بفلسفة التاريخ، أو بنظريات ومدارس تفسير التاريخ.

      والمقصود بالفلسفة – في هذه الدراسة-حقيقة المفهوم الكلي أو محاولة الفهم الكلي لهذه الأحداث التاريخية أو النظرة الكلية لتحليل الحروب الصليبية. وبهذا فإن معالجتنا لفلسفة الحروب الصليبية لن تخرج عن إطار المدارس الفلسفية للتاريخ.

      ولكن ما هي المدرسة الفكرية التي تستطيع أن تقدم تفسيراً كلياَ مقنعاً لتاريخ الحروب الصليبية، أو ليصبح التساؤل كالتالي:

   ما هو الفهم الكلي والتفسير الكلي لتاريخ الحروب الصليبية بحسب منظور مدارس الفكر التاريخي أو بحسب منظور مدارس تفسير التاريخ؟

      فكيف نفهم هذه الحروب بالدرس والتحليل؟ وبالقدرة على الخروج من دراسة الجزئيات إلى الفهم الكلي؟ وكيف نستفيد من دراستنا لتاريخ الحروب الصليبية؟

     إن كيفية فهم التاريخ قضية هامة، لأنها ترتبط بفهم الإنسان لنفسه وللكون، وهذا مرتبط بما يعتقد من دين أو معتقدات أو حتى لا دين. مهما حاول أن يكون موضوعيًا أو لا ذاتيًا في دراسته للتاريخ.

 

      أهداف البحث

      يهدف البحث إلى إجراء تطبيق عملي لفلسفة التاريخ لتحقيق فهم كلي وأعمق لتاريخ الحروب الصليبية من خلال منظور مدارس التاريخ المختلفة. وعلى ذلك فهدف البحث أيضا تحقيق أعمق واشمل فهم كلي لقضية تاريخ الحروب الصليبية.

 

      الدراسات السابقة:

      لم يقف الباحث على دراسات سابقة في هذا المجال.

 

      منهج البحث:

      لتحقيق أهداف البحث سيتبع الباحث المنهج التحليلي النقدي المقارن.

 

     تمهيد:

       امتدت الحروب الصليبية لأكثر من ثلاثمائة عام شكلت فترة مهمة من تاريخ المنطقة وأصبحت سمة بارزة من سمات تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب. بدأت بإعلان البابا أوربان الثاني(ت1099م)، [2] في الدعوة لها، [3]  ثم سريعًا ما استجاب الأمراء ثم الملوك في الحملات اللاحقة لهذه الدعوة في توحد تاريخي نادر للشعوب الأوروبية، [4] صادف حالة من الوهن والتمزق في العالم الإسلامي، تمزق شمل صراعات سياسية ففقد المسلمون القيادة السياسية الواحدة، [5] ثم انقسامات عنصرية-عرب، كرد، ترك-ومنازعات مذهبية خاصة مع الباطنية، الوضع الذي استفاد منه الصليبيون وتسبب بسقوط إمارات إسلامية، وقيام إمارات وممالك صليبية مكانها. [6] لكن هذه الكيانات الصليبية لم تستمر طويلا في الشرق، حتى زالت واحدة تلو الأخرى بفعل عوامل متعددة، كان من أهمها حركة الجهاد الإسلامي، ثم عوامل الوهن والتمزق الداخلي لهذه الكيانات الصليبية في الشرق.  [7]

 

تاريخ الحروب الصليبية ونظرية العناية الإلهية

        من المعلوم أن أهم دافع لسلوك الإنسان وفعله هو فكره ومعتقداته، وفي العصور الوسطى الأوروبية سيطر فكر العناية الإلهية على المسيحيين وعلى غالبية الصليبين المشاركين في هذه الحروب. ويستطيع المؤرخ أن يسجل ذلك ابتداء من مجمع كليرمونت 1095م وخطاب البابا اوربان الثاني الداعي إلى الحروب الصليبية عندما هتفت الحشود "هكذا أراد لله" [8] .

      وتجلى تأثير هذا الفكر المحرك لهذه الحشود الضخمة عند المؤرخين الصليبين المعاصرين. الذين حشدوا تواريخهم بالأحلام والرؤى الدالة على العناية الإلهية الموجهة للحروب الصليبية، وفي قصة الحربة المقدسة في أنطاكية. [9] وكان القديس سان أوغسطين (ت430م)، [10]  أول من قال بهذه النظرية في الفكر المسيحي، فإذا كان عالم الطبيعة مظهر لقدرة الله فان عالم الإنسان مظهرا لعنايته، وانتصار المسيحية هو أبرز مظاهر العناية الإلهية. إذ أن حركة التاريخ هي حركة الصراع بين مدينة الله ومدينة الشيطان، حيث النصر وإن طالت مدة الصراع لمدينة الله. [11] وبالتالي فإن الحروب الصليبية بحسب هذه النظرية هي إرادة ربانية، وانتصار الصليبيين، وإقامة مملكة بيت المقدس مظهرا من مظاهر العناية الإلهية، لكن هذه النظرية بطبيعة الحال تسقط أمام توالي الأحداث التاريخية حيث سقوط الممالك الصليبية، وانتهاء هذا الحلم.

 

      الحروب الصليبية على ضوء نظرية فيكو

     مثل فيكو (ت1744م) [12]  أول يقظة للغرب في معرفة أهمية فهم وتفسير التاريخ فهما كليًا، حيث حاول تفسير حركة التاريخ بالنمط الدوري القائم على العناية الإلهية،  فالمجتمع في حالة نمو طبيعي متدرج، يشارك البشر فيه ببطء مطورين أشكالًا مشتركة للحياة. وهذا التطور لا يخرج عن ثلاثة أقسام متعاقبة فيما بينها، القسم الأول دور الآلهة حيث الحكم فيه للرؤساء الدينيين والقسم الثاني هو دور الأبطال حيث يكون العصر مهيمن عليه من قبل أبطال أشداء وتسود الارستقراطية. وهذا هو الدور الذي نشأت فيه الفروسية والحروب الصليبية، والقسم الثالث هو دور البشر الذي تبرز فيه الأنظمة الديمقراطية بعد الملكيات المستبدة. [13] إذن فالحروب الصليبية على ضوء نظرية فيكو هي مظهر من مظاهر دورة تاريخية تسمى (عصر الأبطال).

 

      تاريخ الحروب الصليبية على ضوء نظريات التقدم

      سادت في القرن السابع عشر في أوربا نظريات أن التاريخ في حالة تقدم مستمر للعقل والفعل الإنساني، ومن أبرز فلاسفة هذا الفكر فولتير (ت1778م) [14]  الذي دعا إلى إعادة تقييم التاريخ الأوربي القديم والوسط لتبيان أخطاء الماضي وإمكان تجنبها في المستقبل، فمعيار التقييم لديه سيادة العقل، لذلك فإن أفضل فترات التاريخ حسب نظرته هو تاريخ اليونان القديم والرومان وعصور النهضة ثم عصر التنوير كما سماه. [15] بينما أعتبر العصور الوسطى وحروبها الصليبية عصر تدهور وركود وفضائع مخزية بسبب الباباوات ورجالات الكنيسة، حيث غاب العقل وسادت الخرافة حسب اعتقاده. إذن فهي فترات تاريخية سيطر عليها التعصب والأهواء والأحقاد. إن الله -حسب نظرته-خلق العالم وفقاً لقوانين ثابتة لا علاقة لها بأفعال الإنسان من خير أو شر وأن الله منح العقل ليحسن استخدامه من أجل سعادته وسعادة الآخرين ومن ثم فإن التاريخ لا يسير وفقاً لمفهوم العناية الإلهية لدى اللاهوتيين، وإنما بمقتضى العقل البشري نحو الأفضل والأحسن [16] .ولهذا فالحروب الصليبية هي إحدى اكبر خطايا الكنيسة بحق الإنسانية وبحق الشعوب الأوروبية، حروب حركتها الخرافة والجشع والأحقاد وغياب العقل.

      أما الماركيز كوندرسيه (ت1794م)  [17]  فإنه في قراءته المتفائلة للتاريخ قدم لوحة تمثل تقدم البشر من خلال تسع مراحل تقريبًا. وجعل الحروب الصليبية من فترات المرحلة السابعة، حيث وأن كانت بسبب التعصب إلا أنها جعلت المساهمين بها يحتكون بالعالم الشرقي وحضاراته وعلومه، مما ساعد في نباهة الفكر الأوروبي ويقظته. أي أن كوندرسيه نظر للحروب الصليبية من جانبها الإيجابي حيث كانت عاملاً مساعداً لنهضة أوروبا.   [18]

 

      تاريخ الحروب الصليبية عن ضوء نظرية كانط

     لم يكن لدى امانويل كانط (ت1804) [19]  فلسفة خاصة للتاريخ سوى إنها جزء من فلسفته العامة، إلا أن بعض الباحثين رأى أن تفسير كانط للتاريخ أنه يمثل التقاء الفعل الإنساني مع التدبير والعناية الإلهية. [20]

      حسب فلسفة كانط أن ما يظهر من أعمال عشوائية فإن للطبيعة-العناية الإلهية– هدف وغاية من ذلك، ولذلك فإن هدف دراسة التاريخ: "الكشف عن النظام والاطراد الذين يكمنان وراء ما يبدو فوضى". [21] وفي تفسيره للحروب فإن لها وظيفة هي إيجاد أحوال جديدة للمجتمعات والدول فالروح العدائية لدى الإنسان والحسد هي التي تساعده على إظهار قدراته ومحاولاته الدائمة للتطور والتفوق. ولولاها لبقت الاستعدادات الطبيعية في الإنسان خامدة لا تعرف النمو. فالطبيعة -العناية الإلهية-تريد من الإنسان أن يخرج من الركود والتراخي إلى العمل والكفاح. [22] وهذه وظيفة الحروب بشكل عام ومنها الحروب الصليبية. ولعل هذا ما حدث بالفعل، حيث استفاد الغرب من هذه الحروب الصليبية حيث عرفوا حضارة الشرق، واخذوا منه ما ساعد في تحقيق نهضتهم العلمية والفكرية.

 

تاريخ الحروب الصليبية على ضوء نظرية هيجل

      يرى هيجل (ت1831م)  [23] أن كل شيء يتم وفق مخطط مرسوم للحوادث ولا مجال للمصادفة في التاريخ، ولا يصح تفسير وقائعه بعلل جزئية فهذه ليست إلا أسباب عرضية ظاهرية. فالمطلق متحد بالروح الكلية التي تسري في أرجاء الوجود، بما في ذلك تاريخ الإنسان فلا يصبح خارج المطلق شيئًا على الإطلاق. [24] حيث الروح الكلية تسعى لتحقيق مرحلة الوعي الكامل بحريتها من خلال صراع المتناقضات. [25]

     وحركة التاريخ هي حركة صراع المتناقضات في سبيل الكشف الفعلي عن مسار الروح في التاريخ، ولذلك فإن التفسير الهيجلي للحروب الصليبية لا يخرج أن تكون شكل من أشكال الديالكتيك-الجدل-أو صراع المتناقضات المستمر الذي يحكم هذا الكون، والذي تسيره الروح الكلية أو المطلق، فمثلت الحروب الصليبية الصراع بين الشرق والغرب وبين الإسلام والمسيحية كمتناقضين في تضاد مستمر.

 

تاريخ الحروب الصليبية على ضوء النظرية الماركسية

      تستند النظرية الماركسية والتي تسمى أيضا النظرية المادية في تفسير التاريخ على أهمية العامل الاقتصادي وإشباع الحاجات المادية للإنسان وذلك من خلال ما يسمى صراع الطبقات في المجتمع، فحركة التاريخ عبارة عن صراع جدلي ولكن من منظور اقتصادي، [26] ولذلك ترى هذه المدرسة أن دافع الحروب الأساسية هو الدافع الاقتصادي. أي أن دافع الصليبين كان البحث عن مكاسب اقتصادية وتجارية وهو ما تمثل في سلوك الأمراء والمدن الايطالية، وفي الأحوال الاقتصادية في أوروبا عشية الإعلان عن الحروب الصليبية. كما كان هدفهم التخلص من سوء الأحوال الاقتصادية الحاصلة في جميع أرجاء أوروبا آنذاك، وخاصة فرنسا التي كانت تعاني من مجاعة كبيرة. [27] وعلى ذلك قامت الإمارات الصليبية لأسباب اقتصادية وانهارت لأسباب اقتصادية على اعتبار العامل الاقتصادي الأهم.

 

تاريخ الحروب الصليبية على ضوء نظرية توينبي

    توصل توينبي (ت1973م)  [28] إلى ما يسمى بنظرية التحدي والاستجابة بعد دراسة مقارنة للمجتمعات ثم الحضارات ثم الأديان حيث يرجع الحضارات إلى مسببها الفعلي وهو الدين ولكن في ظل بيئة تحدي تحفز استجابة لها، والبيئة المتحدية إما طبيعة أو بشرية وهكذا يكون تاريخ البشرية سلسلة من الين واليانج أو التحدي والاستجابة.

    وبذلك فان قيام الحروب الصليبية كان استجابة الغرب لتحدي الاكتساح السلجوقي الذي تمثلت قمته في معركة (مانزكرت) وأسر الإمبراطور البيزنطي في صيف عام1071م. [29] والعكس صحيح أيضاً فقيام حركة الجهاد الإسلامي بقيادة عماد الدين زنكي (ت541هـ/ 1146م)،  [30] ثم نور الدين محمود(ت569ه/1174م)، [31]  ثم صلاح الدين الأيوبي، الذي كان استجابة العالم الإسلامي لتحدي الغرب الصليبي وهكذا.

 

      تاريخ الحروب الصليبية على نظرية البطل صانع التاريخ

      تقوم هذه النظرية على معتقد أن البطل هو صانع التاريخ وهو محرك الأحداث، سواء هو صانع عصره وليس العصر يصنعه، أو هو نتاج ظروف وفعاليات عصره. ولا يكون البطل هنا فقط في السياسة ولكن في كل المجالات البطل كنبي أو البطل كقسيس أو البطل كشاعر.  [32]

     وعليه فان تاريخ الحروب الصليبية ما هو إلا عظمة وصنع رجال أمثال البابا اوربان الثاني الإمبراطور (الكيسوس كومنين) من الجانب الصليبي وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي من الجانب الإسلامي.

 

    تاريخ الحروب الصليبية على ضوء نظرية ساركار الهندي  [33]

    يوجد بحسب هذه النظرية هناك قانون يحكم حركة التاريخ هو قانون الدورات الاجتماعية، فالمجتمع عبارة عن أربع فئات؛ الأولى، تتضمن (المفكرون، ورجال الدين، والأطباء، والمحامين، والأستاذة ... الخ)، والثانية، التي يستخدم افرادها القوة البدنية لحل مشاكلها وتحقيق رغباتها مثل: (العسكر، والرياضيين). ثم الفئة الثالثة، التي يسيطر على افرادها غريزة جمع المال وهم (المتكسبين). والفئة الرابعة، هي التي يفتقر افرادها إلى مواهب الفئات الأخرى، وهم فئة العمال غير المهرة والمزارعين. وقانون الدورات الاجتماعية يقول إن العصور التاريخية عبارة عن تداول بين الفئات الأربع فعصر يسيطر عليه عقلية رجال الدين والمفكرين وعصر يسيطر عليه العسكر وعصر يسيطر عليه عقلية المتكسبين، وهكذا. والقرن الحادي عشر والثاني عشر الأوروبي في العصور الوسطى كان تجسيدًا لحكم فئة رجال الدين بالتحالف مع العسكر الذين يمثلون الإقطاع وفرسانه، [34] وبالتالي فإن الحروب الصليبية كانت مظهر ونتيجة لسيطرة عقلية رجال الدين والعسكر على أوروبا والأوروبيين. مما ينتج عنه استخدام الحروب تحت تبرير الدين وتنفيذ العسكر.

 

       تاريخ الحروب الصليبية على ضوء التفسير الإسلامي للتاريخ

 

        أولًا. التفسير الإسلامي بشكل عام:

      وهو أن الحروب الصليبية حلقة من حلقات الصراع بين الإيمان والكفر أو بين الخير والشر. كما أنها حلقة من حلقات التدافع والتضاد بين آخر الرسالات السماوية بما تحمله للبشرية من خير وحب وتسامح وبين الكنسية المحرفة التي لم يكن لها من هم سوى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المالية، فلم تتورع عن استخدام صكوك الغفران واللعن والطرد من رحمة الرب وغيرها من العقوبات لكل من لا ينصاع لأوامرها ورغباتها.  [35]

 

      ثانيًا. جلال الدين الرومي أنموذجًا:

      يقوم فكر جلال الدين الرومي [36] على الحب حيث أن الملك العظيم يحب الإنسان ويريد له الخير ويريد له العودة إليه والقرب منه لكن عندما ينصرف الإنسان عن الله عز وجل إلى الدنيا يصيبه الله بالسراء والضراء لعله يرجع إليه [37] .

      يقول :

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 

                                                                                                                                                     [الانعام: 42]

 

      وقوله:

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 

                                                                                                                                                     [الانعام: 65]

 

      والقراءة التاريخية الفاحصة تكشف أن المسلمين كانوا في حالة صراع على الدنيا وانغماس في الملذات، مما تسبب في انحطاط عام. ولأجل تحقيق عودة إلى الله وصحوة عامة سلط الله عليهم الصليبيين؛ أي مسهم بـ "البأساء". وبالفعل عندما هزم المسلمون أمام الصليبيين، سرعان ما نشأت مدرسة الغزالي في التزكية والتربية، ثم مدرسة الجيلاني في التزكية والتربية، حتى ظهر جيل نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي وحققا العودة إلى الله عز وجل، والانتصار على العدو الخارجي. [38]

 

     ثالثًا. نظرية ابن خلدون:

     ترتكز نظرية ابن خلدون-باختصار شديد-على وجود سنن تحكم حركة التاريخ.

 

﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا 

[الأحزاب: 62]

 

     ومن خلال رصد حركة تاريخ الدول وجد أنها تخضع لسنن محددة تمكن من الكشف عنها نتيجة المنهج المقارن الذي اتبعه، إذ تمر القبيلة ذات العصبية القوية من طور مجتمع في حالة البداوة والوحشية، حيث تتغلب على من سواها، ثم طور التحضر والتمدن، ثم طور الترف والصراع الداخلي ثم الانهيار. [39] ويمكن لنظرية ابن خلدون أن تساعد في فهم جانب من تاريخ الحروب الصليبية، حيث جسدت الشعوب الأوروبية آنذاك طور البداوة والخشونة، [40] وإن كانت تفاصيل حياة هذه الشعوب لا تتماثل مع بداوة العرب مثلاً. واستطاعت هذه الشعوب الأوروبية البدوية أن تكتسح المناطق والمدن الإسلامية التي وصلت إلى درجة متقدمة من التحضر المترف. [41]

    ثم بقيام الدويلات الصليبية في الشام تحولت هذه القوى إلى طور الاستقرار والتحضر، وسريعاً ما وصلت طور التدهور نتيجة الانغماس في الترف والتنعم، [42] ثم الصراع الداخلي، ولعل هذه القراءة صحيحة أيضاً عند تفسير الاكتساح السلجوقي للدولة البيزنطية

 

      خاتمة:

      تعددت مدارس ونظريات تفسير التاريخ، ولذلك تعددت رؤى فهم حقيقة الحروب الصليبية حسب كل مدرسة فكرية. وفي كل الأحوال فإن الحروب الصليبية شكلت فترة زمنية مهمة وحدثا تاريخيا طال مئات السنيين وتأثر بها ملايين البشر، فكانت علامة بارزة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، بل وفي تاريخ الإنسانية بشكل عام. وستظل هدفا لكثير من الأبحاث والدراسات لسبر المزيد من أغوارها وفهم الحقيقة التاريخية، والاستفادة من دروسها وعبرها.





[1]. بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة، ج 1. بيروت 1984م، ص 26.

[2]. البابا اوربان الثاني: من أصول فرنسية ولد سنة 1042م، وينتمي لأسرة ارستقراطية وتدرج في التعليم حتى شغل مناصب دينية متعددة، منها الخدمة لدي البابا جريجيوري السابع، ثم شغل كرسي البابوية  من الفترة  1088 إلى 1099م.  للمزيد أنظر: الشيخ، محمد محمد مرسي: عصر الحروب الصليبية، الإسكندرية 1990م، ص31).

[3]. تعددت المصادر الغربية في توثيق الخطبة التي دعا فيها اوربان الى الحروب الصليبية، أنظر على سبيل المثال؛ Guibert de Nogent, Historia Quae Dicitur Gesta Dei Per Francos, ed.R.H.C.-H. OCC.,IV, Paris 1879,pp137-140؛ جوزيف نسيم يوسف: العرب والروم واللاتين، الإسكندرية 1989، الملحق الثاني،  ص 301-311، وحاشية رقم 3.

[4]. أنظر: الصوري، وليم: تاريخ الحروب الصليبية، الأعمال المنجزة فيما وراء البحار، ج 1. ت: سهيل زكار، دمشق 1990، ص174 وما بعدها، بنصرّف.

[5]. أنظر على سبيل المثال؛ ابن كثير، عبد الرحمن: البداية والنهاية، ج 12. بيروت 1966، ص 157.

[6]. عاشور، سعيد عبد الفتاح: الحركة الصليبية، ج 1. القاهرة 1963، ص 110.

[7]. أنظر على سبيل المثال؛  رنسمان، ستيفن : تاريخ الحروب الصليبية، ج 3. ت: السيد الباز العريني. [ب. د]، 1993، ص659.

 [8]. أنظر على سبيل المثال؛ Robert Le Moine, Historia Iherosolymitano Itinere.ed.R.H.C.-H III, Paris, 1866 ,pp729.CF.

[9].  رنسمان: تاريخ الحروب الصليبية، ص 1/172، وما بعدها، بتصرّف.

[10]. القديس أوغسطين: ولد في مقاطعة نوميديا في الجزائر عام 354م، ثم انتقل إلى روما، ثم ميلانو حيث تأثر بمواعظ القديس امبروزيوس، ولم يلبث أن اعتنق المسيحية بعدما كان مانويا بمساعدة وتأثير من والدته المسيحية مونيكا. له العديد من المؤلفات، أهمها: الاعترافات، ومدينة الله.(بدوي، عبد الرحمن: فلسفة العصور الوسطى، بيروت 1997م، ص15 وما بعدها، بتصرّف).

[11]. صبحي، أحمد محمد: في فلسفة التاريخ، الإسكندرية 2004م، ص 172-173؛ موس، هـ. سانت ل. ب: ميلاد العصور الوسطى، ت: عبد العزيز توفيق جاويد، القاهرة 1967م، ص36.

[12]. جيوفاني فيكو: فيلسوف ايطالي ولد عام 1668م في نابولي، عمل أستاذًا للبلاغة واللغة، له العديد من المؤلفات، منها العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم. أنظر، صبحي، أحمد: المرجع نفسه، ص159، حاشية رقم 1).

[13]. الشيخ، رأفت: تفسير مسار التاريخ، القاهرة 2000، ص 105-106؛ رسل، برتراند: حكمة الغرب، الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ج 2. ت: فؤاد زكريا، الكويت 1983م، ص 100؛ صبحي، أحمد محمود: فلسفة التاريخ، ص 165.

[14]. فولتير: ولد في باريس عام1694م، وبسبب مواقفه نفي إلى هولندا ثم حبس في الباستيل، ثم أقام في انجلترا حيث تأثر بديمقراطيتها ودرس فلسفتها، أصبح احد أشهر مؤرخي فرنسا ومفكريها، له العديد من المؤلفات، منها: (فلسفة التاريخ، تاريخ نشأة المسيحية).  للمزيد أنظر؛ (عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، بيروت 1984م، ج2، ص201).

[15]. صبحي، أحمد محمود : المرجع نفسه، ص 186.

[16]. المرجع نفسه،  ص 185-189، بتصرّف.

[17].  ماري جان أنطوان كوندرسيه: فيلسوف ورياضي فرنسي، ولد عام 1743 سليل أسرة نبيلة، شارك بحماس في الثورة الفرنسية، إلا انه عارض إعدام لويس السادس عشر، ومن ابرز أفكاره الفلسفية تأثير التربية على النظام السياسي، إضافة إلى فلسفة التقدم. (بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة، ص2/350).

[18]. صبحي، أحمد محمود: المرجع نفسه، ص 190 وما بعدها، بتصرّف؛ ويدجيري، البان: المذاهب الكبرى في التاريخ، ت: ذوقان قرقوط، بيروت 1979، ص 202.

[19]. إيمانويل كانطفيلسوف ألماني. ولد في 1724م نشر أعمالًا هامة عن نظرية المعرفة، وأخرى متعلقة بالدين والقانون والتاريخ. من أكثر أعماله شهرة كتاب نقد العقل المجرد، وهو بحث واستقصاء عن محدوديات وبنية العقل نفسه. للمزيد أنظر؛ بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة، ص 2/269 وما بعدها، بتصرّف).

[20]. صبحي، أحمد محمود: المرجع نفسه، 202.

[21]. المرجع نفسه، ص 202 وما بعدها، بتصرّف.

[22]. المرجع نفسه، ص 203؛ ويدجيري : المذاهب الكبرى،216 وما بعدها.

[23]. هيجل: جورج فلهلم فردريك، فيلسوف ألماني، ولد عام 1770م ، درس اللاهوت والفلسفة، ثم عمل في أستاذًا في جامعة برلين، له عدة مؤلفات، منها: المنطق الكبير وموسوعة العلوم الفلسفية، وغيرها. للمزيد أنظر، (بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة، 2/570 وما بعدها، بتصرّف).

[24]. صبحي، أحمد محمد: المرجع نفسه، ص 205.

[25]. أنظر نقد هذه النظرية في: عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي لتاريخ، بيروت 1975، ص 19 وما بعدها، بتصرّف.

[26]. رأفت الشيخ: تفسير مسار التاريخ، ص 167 وما بعدها، بنصرّف.

[27]. أنظر على سبيل المثال؛ سعيد عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة 1986م، ج1، ص 426.

[28]. ارنولد توينبي: مؤرخ انجليزي ولد عام 1889م، له العديد من المؤلفات منها تاريخ الحضارة الهلينية ومحاكمة الحضارة وغيرها، لكن أهمها كتابه: دراسة للتاريخ. (الشيخ، رأفت: تفسير مسار التاريخ، ص 193 وما بعدها، بتصرّف).

[29]. أنظر؛ السيد الباز العريني: الدولة البيزنطية، 323-1081م، بيروت 1982م، ص 853.

[30]  الاتابك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة الحاجب آق سنقر: والده مؤسس الدولة الاتابكية في الموصل، قام عماد الدين بحركة جهاد واسعة ضد الوجود الصليبي، أبرزها تحرير (الرها). أنظر على سبيل المثال؛ (ابن خلكان، احمد بن محمد : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت 1994م، ج 2، ص 327؛ الزركلي: الأعلام، 3/50).

[31]. نور الدين محمود بن زنكي: ولد بحلب وملك الشام وديار الجزيرة ومصر، وامتد نفوذه إلى اليمن والحجاز، اشتهر بالعدل وتوقير العلماء وبعمارة المدارس والخانقاوات، وبالجهاد ضد الصليبيين، للمزيد أنظر؛ (ابوشامة، المقدسي: الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية. [د. د]، بيروت؛ الزركلي: الأعلام، 7/170).

[32]. صبحي، أحمد محمد: فلسفة التاريخ، ص71 وما بعدها، بتصرّف.

[33]. ساركار، برابهات رانجان ساركار: زعيم وفيلسوف معاصر  لطائفة هندية تدعى اناندا. أنظر؛ Prabhat Ranjan Sarkar) Wikipedia)

[34]. أنظر؛ باترا، رافي: الكساد الكبير في التسعينات، ت: موسى الزعبي، بيروت 1993، ص25-58، بتصرّف؛ الصافي، محمد حسين: انهيار الرأسمالية. مكتبة مدبولي، القاهرة 2004م، ص23 وما بعدها.

[35].  للمزيد عن التفسير الإسلامي للتاريخ، أنظر؛: خليل، عماد الدين: التفسير الإسلامي للتاريخ، بيروت 1985.

[36]. محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي؛  المعروف بمولانا جلال الدین الرومي. هو أديب وفقيه و صوفي. عرف بالرومي لأنه قضى معظم حياته لدى سلاجقة الروم في تركيا الحالية. انتقل مع أبيه واستقر في قونية في عام (632 هـ / 1226م)، حيث وجد الحماية والرعاية في كنف الأمير السلجوقي (علاء الدين قبقباذ)، واختير للتدريس في أربع مدارس بـ (قونية). يعد من أبرز مفكري الإسلام. من أهم مؤلفاته (المثنوي). للمزيد أنظر؛ (الندوي، أبو الحسن: رجال الفكر والدعوة في الإسلام، دمشق 2002، ص 391، وما بعدها، بتصرّف).

[37]. أنظر على سبيل المثال: اوقويوجو، جيهان: مولانا جلال الدين الرومي، ت: اورخان محمد علي، القاهرة 2009م، ص 129-130.

[38]. أنظر على سبيل المثال؛ الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، اربد2003، ص97 وما بعدها، بتصرّف.

[39]. ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدمة. [ب. د]، بيروت، ص 138 وما بعدها، بتصرّف.

[40]. كانت أوروبا آنذاك في مرحلة تشكل سكاني نشيط، حيث استمرت الهجرات السكانية إليها سواء الهجرات الجرمانية أو الأسيوية حتى القرن العاشر الميلادي تقريبا في هجرات وغزوات الفيكنج وهي تمثل شكل من أشكال البداوة والخشونة الشديدة. أنظر؛ (عبد الفتاح سعيد عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة 1986، ج 1. ص 218 وما بعدها، بتصرّف). حتى صارت إلى شكلها السكاني الحالي الذي ينقسم إلى ثلاث أجناس كبيرة تقريبًا، هم: (الانجلوسكسون، واللاتين، والسلاف).

[41]. تحولت الدولة الإسلامية إلى طور الترف والتنعم منذ عصر الدولة الأموية، حتى وصل الأمر إلى حد كبير في أواخر عصر الدولة العباسية. أنظر على سبيل المثال؛ (ابن كثير: البداية، 12/87،132).

[42]. رنسمان: الحروب الصليبية، 2/519 وما بعدها، بتصرّف.

تعليقات

المشاركات الشائعة