المنهج القرآني والنبوي للتاريخ وتفسير التاريخ

 

      هو منهج يفسر التاريخ بموجب الكتاب والسنة النبوية. حيث يعتبر التاريخ جزء من الديانة ومكمل ومفسر لها. ونستطيع القول ان الفكر الإسلامي يتضمن المحاور الثلاثة، محور منهج البحث من خلال علم الحديث ومنهج السند والجرح والتعديل، ومحور المنهج التفسيري من منظور الكتاب والسنة، ومحور النظرية الفلسفية الكلية المفسرة للتاريخ من خلال الاخبار والقصص القرآني والنبوي .

       يقوم الفكر القرآني للتاريخ على أساس النظرة الكلية الواحدة للكون. فالتاريخ يبدأ من حدث خلق الله للسماوات والأرض، ثم قصة خلق آدم وصراع الكفر والإيمان، بين آدم وإبليس لعنه الله ليستمر السياق القرآني للتاريخ على أساس أنه صراع بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ليقص علينا قصص الأنبياء والرسل، ثم يعالج فترة العهد النبوي الشريف، ويستمر الإخبار التاريخي ليخبرنا عن إعادة الخلق يوم القيامة وانتهاء الصراع بين الخير والشر إما في الجنة أو في النار .
      في هذا الأخبار القرآني للتاريخ يتبع منهج التوثيق التاريخي "وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ"، والوصف التاريخي "وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ".
     ويتبع منهج تفسير الحدث التاريخي "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ"؛ أي لأنه من المحسنين اتاه الله الحكم والعلم. "{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ"؛ أي أنه استكبر في الأرض لأنه ظن أنه لن يعود إلى الله، ولا يوجد حساب لأعماله.
     ويتبع كذلك منهج التفسير النفسي للتاريخ، مثل قوله عز وجل: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ"؛ أي أن سبب هزيمتكم في أول الأمر هو إعجابكم بأنفسكم وغروركم. وقوله تعالى: "وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ".
      فاذا كانت حركة التاريخ عند البعض ما هي الا نتيجة دوافع السلوك الانساني. فإن مفهوم القران الكريم للدافع هو الباعث. ويوضح الكتاب الكريم العديد من البواعث للسلوك، أولًا باعث للسلوك لطريق الآخرة، وباعث للسلوك لتحقيق أهداف دنيوية فقط. وقد حددها المولى عز وجل فقال: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)". آل عمران.
     فدوافع السلوك شهوة الجنس أو غريزة الجنس، ثم حب الأولاد أو غريزة البقاء والتناسل، ثم حب المال أو غريزة التملك. فهذه بواعث للسلوك عند الكثير . أما باعث الآخرة فهو نتيجة صحة الفكر، والتصور، وصحة العزم، وعدم الارتكان والخور. فيتوجه السلوك من عبادة لله والعلاقة مع الإنسان والكون وبالتالي صناعة التاريخ .
     ويبين هذا المنهج الكريم إن الله هو الفاعل الأول والأخير الحركة التاريخ . فالله عز وجل ليس غائب أو مشاهد محايد لأحداث التاريخ، بل هو فاعل مريد مدبر للأمر من السماء، يستجيب لمن دعاه، وينتقم من المفسد، فهو صاحب الأمر الحقيقي بهذا الكون. فالله هو الرافع والخافض وهو المعز والمذل "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ". (سورة الفجر 6).
     وعلى ذلك فما حركة التاريخ إلا تجليات الأسماء والصفات الربانية وظهور فاعليتها. كما أن نظرية العناية الإلهية تأخذ شكل أوسع في المنظور القرآني، فهي تدبير كلي يشمل المؤمن والكافر وكل الخلق: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ". (السجدة: 5)، كما يمتاز المنهج القرآني بالقدرة على الخروج من الجزئيات إلى الكليات "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا". ( الأحزاب: 62). 
      فهناك سنن تحكم حركة التاريخ، ومن أهداف علم التاريخ معرفتها، فعلى سبيل المثال الفسق والفساد سبب للدمار وسقوط الحضارات : "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا". (الاسراء: 16).
      أضف إلى ذلك أن هذا المنهج عند تحليله ودراسته للحدث التاريخي، يأخذ بكافة العوامل الصانعة لهذا الحدث، منها العامل الغيبي أو تدخل قوى الغيب للمساهمة في صنع الحدث التاريخي، ومثال على ذلك روايته لما حدث في معركة بدر من أن الشيطان كان المحرض الأول لهذه المعركة، بهدف استئصال المؤمنين، ثم نزول الملائكة مسلحين مقاتلين مع المسلمين. هذه الرؤية التي تأخذ بالجانب الغيبي مفقودة تمامًا لدى كافة المناهج الحديثة لدراسة التاريخ .
      وتتمة إلى ذلك يعلمنا الإخبار القرآني والنبوي للتاريخ بأهمية العامل الفيزيائي والطبيعي. فالبيئة الفيزيائية والطبيعية المحيطة بالإنسان تتأثر وتتفاعل مع فعله، إن كان خيرًا بخير، أو شرًا بشر. فالكفر والإفساد يؤدي إلى غضب الطبيعة بأمر ربها. والإيمان والإصلاح يؤدي إلى عطاء الطبيعة وخدمتها للمؤمن، كما في حديث السحابة التي تسقي زرع المؤمن المتصدق، وقوله عز وجل : "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ". (الأعراف: 96) .
     إن هذا المنهج الكوني الشامل لدراسة التاريخ، تفتقد إليه كل المناهج المعاصرة، فأحداث الطبيعة لديهم مجرد مصادفات "خبط عشواء" لا علاقة لها بسلوك وفعل الإنسان. كما أنهم لا يؤمنون أو يدرسوا أي تدخل لقوى الغيب في الأحداث التاريخية.
      كذلك يخبرنا الله عز وجل عن طبيعة حركة التاريخ بين الخالق والحضارات الإنسانية، يقول المولى:"وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ". (الأعراف: 101).
     فالبأساء والضراء حركة تاريخية وأسلوب رباني لإعادة الأمم لربها والإنابة إليه. والعودة إلى الله سبب للرخاء والسعادة على الأرض. وبهذا فإن المنهج القرآني للتاريخ يحقق أهدافه السماوية في العظة والعبرة،وفي التربية النفسية والعقلية، وفي الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفي التنبيه لكافة العوامل الصانعة للحدث التاريخية ليستطيع المؤمن أن يقف على بينه من أمره.
"وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ". (هود: 120)

تعليقات

المشاركات الشائعة