وحدة اليمن عبر التاريخ

  المقدمة:

      يتبادر إلى الذهن في كثير من الاحيان أن كلمة وحدة اليمن أو الوحدة اليمنية تعني التكامل السياسي ووحدة الحكم، والحقيقة أنها ذات مفهوم أوسع وأكبر من ذلك، فهي ذات أبعاد حضارية وجغرافية، واقتصادية، وثقافية، وعرقية. فإذا كانت بالمعنى السياسي تخضع لعوامل متقلبة، مثل: قوة وحكمة القيادة، فإنها بمفهومها الحقيقي الشامل كانت أقوى وأعمق من أي تقلبات سياسية أو اقتصادية مر بها اليمن عبر التاريخ.

      تطرح الدراسة التاريخية ظروف وعوامل وحدة اليمن سياسيًا، وكيف نستفيد من دروس التاريخ لتحقيق أفضل مستقبل ممكن.

 

      أهمية الدراسة:

      تنبع أهمية الدراسة من أهمية ما تمثله قضية الوحدة اليمنية للشعب وللأمة، سواء من الناحية القانونية؛ كواجب شرعي، أو من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق الأمن والاستقرار.

 

      أهداف الدراسة:

      تتبع موضوع الوحدة في تاريخ اليمن بمعناها الشامل الحقيقي، وليس فقط السياسي. ثم الاستقراء للوصول إلى القوانين العامة والسنن التي كانت تحكم قيام الوحدة سياسيًا أو التمزق والتشرذم.

 

    المنهج العلمي للدراسة:

     أستخدم الباحث في هذا الدراسة المنهج التاريخي من الوصف، والتفسير، والاستقراء. على أنه لا بد من التوضيح أن صعوبة البحث تكمن في تحقيق ذلك؛ كون موضوع الدراسة يمتد إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، وثقت حوله الكثير من الدراسات والبحوث المختلفة. مع ضيق الوقت المتاح لذلك.

      وحدة النسب والأب:

       تعتبر وحدة النسب والأب أهم أصول وحدة اليمنيين، حيث لا تتوفر مثل هذه الميزة عند كثير من الشعوب العالمية الأخرى التي تعتبر اليوم في حال التوحد، مثل الشعب الألماني على سبيل المثال الذي يتشكل في أصوله من الشعوب الجرمانية والشعب الروماني القديم.

      ويشير علم الأنساب عند العرب إلى أنه تكاد تنحدر أنساب أهل اليمن من سبأ الأكبر، الذي يسمى أيضًا (عبد شمس). فكان له من العقب ولدان هما حمير وكهلان، ومن حمير تنحدر أنساب (قضاعة، وخولان، ومهرة، والمعافر، والأصابح، والكلاع، والاملوك) وغيرها، ومن كهلان تنحدر أنساب (الأزد، ومذحج، وهمدان، وكندة، وطي الأشاعر، وعك) وغيرها. كذلك تذكر كثير من الأنساب أن (سبأ، وحضرموت) هما إخوة أبناء قحطان.

     أختلف الإخباريون العرب في تسمية "اليمن" فقيل أسم لولد قحطان بن الهميسع بن تيمن بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام، وسميت البلاد باسمه، وقيل سميت يمنًا ليمنه، وآخر قال سمي يمنًا لأنه يمين الكعبة، وسمي الشام شامًا لأنه شمالها، وسمي الحجاز حجازًا لأنه حجز بين الشام واليمن. (2)

     وبانتماء أهل اليمن إلى أب واحد جعل منهم أسرة كبيرة، كانت تنمو وتزدهر عبر عصور التاريخ محتفظين حسب طبيعة اليمنيين بوشائج القرابة والعادات والتقاليد، ويمارسون أعمال بناء الحضارة ووسائل المعيشة المختلفة. على أن الوحدة والتماسك والتعاضد هو التراث الروحي القوي، الذي ورثه أهل اليمن من الأب الواحد، والأسرة الواحدة؛ فمهرة في أقصى الشرق، هو أخ شقيق لخولان في شمال صعدة. ليس ذلك فقط بل إن الوشائج بينهم وبين عرب الشمال، تجعل منهم شعبًا عربيًا واحدًا، تتأكد عروبته كل يوم على مر التاريخ.

 

      وحدة المكان والدين واللغة:

     تتضافر عوامل عديدة ومعقدة في صنع حركة التاريخ، منها: (السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، والفردية، والجغرافية، واللغوية والسكانية) إلى آخره.

     وفي تاريخ اليمن ووحدته بشكل خاص كان للعامل الجغرافي أهمية كبيرة، نظرًا للطبيعة الجغرافية لليمن، وموقعه الفريد المتميز. حيث يقع جنوب غرب قارة آسيا، يتحكم في مجرى مائي يفصل بين ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، مما أعطاه قوة التحكم في حركة التجارة العالمية، لفترات تاريخية طويلة. ووحد خصائص سكان المنطقة.

      وفي جنوب جزيرة العرب هذه توافرت الشروط الطبيعية لحياة الاستقرار والحضارة؛ إذ أستقر الشعب على ضفاف الوديان وسفوح القمم الجبلية، بانين البيوت وزارعين الأرض، فأقاموا حضارة راقية تشبه إلى حد كبير حضارات شمال الجزيرة العربية وأطرافها: (حضارات بلاد الشام، وما بين النهرين ووادي النيل).

     كانت الأمطار تهطل بغزارة في الصيف على الجبال العالية والهضاب والقيعان، نتيجة الرياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي، فتنحدر مياه هذه الأمطار، وتسيل في أودية كثيرة على جانبي السلسلة الجبلية المكونة لليمن، فتمر عبر الأرض المفتوحة غربًا، لتصب في البحر الأحمر، أو تجري شرقًا وشمالًا، باتجاه الأرض المنبسطة حتى مشارف الصحراء الشرقية. ولهذا قامت أولى الحضارات اليمنية في تلك الجهات، فكانت سبأ وعاصمتها (مأرب)، ومن تبعها من الممالك بعد ذلك لا يخرج عن هذا المسرح المكاني للأحداث إلا نادرًا.

     فقامت دولة سبأ على وادي أذنه، ودولة قتبان على وادي بيحان، ودولة حضرموت وعاصمتها شبوة على وادي المعشار، ودولة معين على وادي الجوف، ودولة أوسان على وادي مرخة. وذلك لتوفر المياه، والأرض الخصبة، والمناخ المناسب.

     هكذا كان للتضاريس والمناخ الأثر الكبير على الإنسان اليمني ونشاطه، حيث تمكن من الاستفادة القصوى من هذه الظروف الطبيعية وتسخيرها لمصلحته وجعلها رافدًا لحضارته الباذخة، متأثرًا ومؤثرًا بها بشكل إيجابي، في ظل زخم سكاني وبشري كبير.

     ولأجل ذلك سمى الجغرافيون القدامى اليمن بـ (العربية السعيدة)، لما اشتهر به من ثراء ورخاء، ولسيطرته على مقاليد التجارة العالمية آنذاك.

     واليمن عند العرب يشتمل (تهامة، ونجد اليمن، وعُمان، ومهرة، وحضرموت، وصنعاء، وعدن) وكل من مخاليفه، التي تمتد من حدود الطائف ويلملم شمالًا، حتى بحر العرب جنوبًا، إلى بحر فارس شرقًا.

       كذلك كان اليمن موحدًا دينيًا، حيث كان اليمانيون في تاريخهم القديم يعبدون الكواكب، ويعتبر (الإله عثتر) رأس مجمع الآلهة سواء لمعبودات (سبأ، أو قتبان، أو حضرموت، أو معين). الشيء الذي شكل وحدة دينية، رغم تعدد الآلِهَة الفرعية.

      وكان للعقيدة الدينية دور هام وسيطرة عميقة على حياة اليمنيين، كما كان لها دور في توطيد وحدة شعوب الممالك اليمنية القديمة، فكان الملك يعزو سلطانه وانتصاراته ونجاحه إلى الآلهة التي كان يعبدها، وفكرة الدولة كان يعبر عنها بالثالوث (الإله، الحاكم، الشعب)، فالدولة السبئية مثلًا عبر عنها من خلال: المقه (الإله الرسمي)، كرب إل (الحاكم)، سبأ (الشعب).

      ثم حدث نوع من التطور الديني نحو التوحيد، فبدأت تختفي أسماء الآلهة، التي كانت تشكل مجمعًا، وأصبح الإله المقه (القمر) هو الوحيد في غالب النقوش التي عثر عليها في مأرب، والتي تعود إلى القرن الأول الميلادي، ثم لم يلبث أن ظهرت عبارة إله السماء الأرض وعبادة الرحمن منذ النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي، وذلك كما هو المرجح، قبل أن تصل الديانة اليهودية ثم المسيحية إلى اليمن.

      ومثلث اللغة اليمنية القديمة، وقلمها المسند دليلًا قاطعًا على وحدة اللغة والثقافة اليمنية، إذ أن آثارها ممتدة إلى اليوم على الحجار والتماثيل الأثرية، من قرية الفاو بأعلى نجد شمالًا إلى أبين وشبوه جنوبًا، ومن أراضي ظفار شرقًا، إلى مشارف تهامة غربًا.

     كشف الباحثون أن أشكال حروف القلم المسند، والخطوط السبئية والمعينية والحميرية، لا تختلف عن بعضها، كذلك بالنسبة للمصطلحات. وبذلك تظهر الحقيقة التاريخية أن الحضارة والدولة اليمنية القديمة هي في الأصل واحدة.

 

    محطات الوحدة والتمزق (تاريخ اليمن القديم):

      تتميز دراسة تاريخ اليمن القديم بالصعوبة نظرًا لصعوبة الحصول على المصادر والنقوش الكافية، لاستجلاء كامل للتاريخ القديم لدى الباحثين الدارسين المهتمين.

     لكن ما توفر للباحثين من نقوش، يشير إلى أن دولة سبأ كانت أول وأكبر تكوين سياسي منذ الألف الأول قبل الميلاد، ثم ما ظهر من دول لم تكن سوى تكوينات سياسية أقل شأنًا منها، وغالبًا كانت تابعة ودائرة في فلكها ونفوذها. مرتبطة بها حينًا، ومنفصلة عنها حينًا آخر؛ عندما تضعف الحكومة المركزية لسبب أو لآخر، مثل: (معين، وقتبان، وأوسان، وحضرموت). أما حمير فقد كانت آخر الدول ظهورًا، مندمجة مع سبأ تحت اسم (سبأ وذي ريدان) حيث نقلت العاصمة من مأرب بعد أن خربت إلى ظفار.

     كان التوحد السياسي مجرد شكل من أشكال النشاط السياسي، أما الحضاري فهو أحادية (الإنسان والمكان)، وهو مستمر وقائم، تمثله كل أشكال الوجود في اليمن، بما في ذلك الحياة السياسية؛ حيث تلقب حكام الدول الأوائل جميعًا بلقب مشترك (مكرب).

     ومثلت دولة سبأ في فترات قوتها الوحدة السياسية للبلاد، حيث توسعت لتشمل مناطق شاسعة في اليمن، وتنقلت عاصمتها تبعًا للظروف السياسية بين كل من (مأرب، وصرواح، وصنعاء).

     ومن أشهر ملوك سبأ في التاريخ القديم (المكرب يدع إل ذرح)، الذي امتاز عهده بتحقيق الاتحاد والتحالف بين قبائل الشعب، كما حقق انتصارات عسكرية، أدت إلى توسيع رقعة الدولة، إضافة إلى قيامه بإنجازات عمرانية من بناء المعابد الدينية والأسوار، الشيء الذي يشير إلى ارتباط وحدة البلاد مع النهضة الاقتصادية العامة، وهذا درس تاريخي مهم.

     كذلك عرف المؤرخون أحد أهم ملوك دولة سبأ وهو المكرب إل وتر بن ذمر على (القرن السابع ق.م)، من خلال نقش النصر الذي وجد في صرواح، وهو أطول وأهم النقوش السبئية، التي قدمت للباحثين صورة واضحة نسبيًا عن الأوضاع السياسية والحضارية في تلك الفترة القديمة من تاريخ اليمن. في عهد هذا الملك تحقق على يديه وحدة سياسية نهضة عمرانية وحضارية كبيرة، حيث أنشا العديد من المعابد والقصور، وتوسعت الأراضي الزراعية، منشئًا أعمال الري والقنوات والسدود، وحقق تواصلًا سياسيًا مع قوى العالم الخارجي آنذاك.

      صاحب ذلك توسعات عسكرية من خلال تنفيذ حملات عسكرية ضخمة إلى معظم مناطق البلاد، حيث توسع إلى البحر الأحمر غربًا، متضمنًا منطقة المعافر وما جاورها، فسدد ضربة قاصمة إلى دولة أوسان، وتوسع شمالًا حتى نجران وما جاورها. ولقد استخدم في جميع هذه الحملات القسوة الشديدة لضرب أعداء الدولة المركزية، من سلب، وقتل، ومصادرة أراضي، وسبي لأعداد كبيرة من المناطق المحاربة، وحرق مدن وفرض غرامات مالية، ثم فرض جزية سنوية مستمرة، لإرهاق الخصوم وإزالة أسوار المدن، بل حتى أحدث تغيرات سكانية منعًا لعودة الثورات من جديد، فقام بإحلال سكان سبئيين في بعض المدن المهزومة.

      ورغم تلازم الوحدة السياسية مع النهضة العمرانية التي تشير إليها النقوش، إلا أننا لا نرى أن هذه السياسة من القسوة في التعامل قد عملت على استمراريتها، حيث لم يظهر بعد تلك الفترة إفادة تاريخية عن بقاء الدولة، كما كانت في عهد (وتر بن ذمر علي). بل ظهرت فترة صراع طويل مع دولة قتبان، بعد أن كانت حضرموت في حالة تحالف مع سبأ. وهو الشيء الذي نجده تكرر بعد ذلك في عهد الملك شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان (210-230م)، حيث استطاع بفضل القسوة الشديدة من بسط نفوذ الدولة السبئية في معظم أجزاء اليمن، إلا أن هذه الوحدة لم تدم إلا سنوات قليلة، ارتبطت بحياته الشخصية.

     وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فترة التناحر والصراع لم تأخذ شكلًا مناطقيًا أو جغرافيًا، مثل المصطلح الحديث (الشمال والجنوب) اليمني، والدليل على ذلك أنه حين تصادمت سبأ مع حضرموت في القرن الثاني بعد الميلاد، كان من حلفاء حضرموت في هذه الحرب كل من (قبائل خولان، وكل ولد عم، واوسان ومضحى، وردمان؛ رداع)، وكانت على سبيل المثال دولة قتبان تضم إليها (وادي بيحان، ووادي حريب)، وتضم حمير (يافع، وذمار، ويريم). أضف إلى ذلك أن أبرز حكام معين في الجوف كان الملك إل يفع يثع ابن ملك حضرموت يدع علي، الذي حكم في فترة الوحدة بين معين وحضرموت.

     وبالتالي لم يعرف في التاريخ تقسيم اليمن (شمالًا وجنوبًا) إلا مع الاستعمار في القرن العشرين. وهذا درس تاريخي آخر مهم حول دوافع الصراع وأسبابه في تاريخ اليمن.

 

     الحملة الرمانية على اليمن والاستفادة التاريخية منها:

      تعتبر حملة اليوس جاليوس الرومانية لغزو اليمن صفحة مهمة من صفحات تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، التي تعددت أوجهها ومجالاتها، منها: العلاقات الاقتصادية، والسياسية والفكرية، والعسكرية، والحربية. ذلك أن هذه الحملة تعد أولى محاولات الغرب لغزو اليمن، فما هي الدوافع؟ وكيف كانت نتيجتها؟ وما هي الدروس المستفادة منها؟

      بتكليف من الإمبراطور الروماني أغسطس (ت 14 ق. م) أعد نائبه في حكم مصر القائد اليوس جاليوس حملة ضخمة لغزو اليمن، انطلقت عام 24 ق. م على متن أسطول ضخم مكون من (130) سفينة، من ميناء مصري على خليج السويس، متجهًا صوب أحد موانئ الأنباط على الجانب الآخر من البحر الأحمر يدعى (لويكه كومة)، وقد وصلت القوات الرومانية إليه بعد خمسة عشر يومًا من الإبحار، وتعرضت خلالها السفن لمتاعب جمة، وتحطم منها الكثير.

      وكان الرومان يعلقون آمالًا كبيرة على حليفتهم آنذاك (مملكة الأنباط) شمال الجزيرة العربية، التي كان يحكمها صديق القيصر (عبادة الثالث). وبالفعل زود الأنباط الحملة الرومانية، بما يقرب من ألف جندي من الأنباط، ومجموعة من المجندين اليهود، وصل عددهم حوالي 500 مقاتل. واختير الوزير النبطي سيلايوس (صالح) مرشدًا للحملة، ثم تحركت هذه الجيوش بقيادة اليوس جاليوس بمحاذاة ساحل الحجاز باتجاه الجنوب نحو اليمن.

      تعرضت جيوش الحملة لمحنة العطش والمرض خلال الستة الأشهر الأولى، حتى وصلت إلى أول المدن اليمنية ذات الخصوبة "نجران" والتي قاموا بتدميرها، وأجبروا ملكها على الفرار منها.

     وبعدها بستة أيام وصل الرومان إلى نهر جرت عنده معركة كبيرة مع العرب، إلا أنها لم تكن حاسمة، فاستمروا في السير حتى وصلوا إلى منطقة تدعى نسكا NASCCA التي رجح الباحثون أنها نشق بالجوف (خربة البيضاء حاليًا)، واستولوا عليها دون مقاومة حسب ادعاء مؤرخ الحملة الرماني. وأخيرًا وصلت الحملة إلى مأرب عاصمة (سبأ) -كان ملكها حينها يسمى إلى شرح-على أنها كانت محصنة تحصينًا جيدًا فقاومت، مما اضطر الرومان إلى محاولة حصارها ستة أيام، إلا أن قلة المياه وتفشي الأمراض جعلتهم ينسحبوا، ويعودوا من نفس الطريق الذي أتوا منها، فوصلوا إلى نجران بعد تسعة أيام، حيث وقعت معركة، ثم استمروا بالانسحاب حتى وصلوا إلى شمال الجزيرة، بعد ستين يومًا من السفر. أتهم الرومان الوزير النبطي بالخيانة وبأنه كان سبب هذا الفشل، فنفذ فيه حكم الإعدام بالقطع راسًا علنًا في إحدى ساحات روما.

     ورغم أن هذه الأحداث التاريخية الخطيرة لم تصل إلينا إلا عبر مؤرخ الحملة الرومانية المدعو (سترابو)، بالإضافة إلى أن الباحثون لم يجدوا لها أية ذكر في النقوش التي عثر عليها حتى الآن، إلا أننا نستطيع أن نستخلص القراءات والدروس التالية:

o      كان السبب والدافع الرئيس للحملة "اقتصاديًا"، حيث سعى الرومان للسيطرة على بلاد البخور والبلاد التي تتحكم بطريق التجارة الدولية آنذاك. وكان اليمن يتمتع بسمعة ممتازة بسبب ما نقله عنه الكتاب اليونان والرمان، ابتداءً بهيرودوت إلى سترابو وبليني، الذين تكلموا عن الثراء العريض للسبئيين، بفضل تجارتهم بالبخور، وما حصلوا عليه من أرباح منها من ذهب وفضة وما شيدوا من قصور مذهلة.

o      إن هزيمة وانكسار الرومان كان لسببين؛ أولاً، الطبيعة الجغرافية البرية القاسية للجزيرة العربية، التي وفرت حماية طبيعية لليمن من الناحية الشمالية. وبالفعل فإننا نجد أن هذه الحملة الوحيدة التي غزت اليمن عبر البر، وسنلاحظ باستقراء التاريخ بعد ذلك أن كل غزو خارجي لليمن قدم من قبل البحر. ثانيًا، رغم وجود التباينات السياسية بين اليمنيين آنذاك، لم تحصل الحملة على قوى يمنية تساندها وتقف بجوارها لإسقاط العاصمة (مأرب)، حيث بدأت المقاومة من نجران، ثم قبل الوصول إليها. وعندما حاولت الانسحاب تتبعتها المقاومة حتى خرجت من أراضي جنوب الجزيرة العربية. الشيء الذي يعني أن وحدة اليمنيين في التاريخ القديم، كانت هي الصخرة الحقيقية التي تحطمت عليها محاولة الغزو الرومانية، التي كانت لولا ذلك لوجدت حاضن محلي يقدم لها الدعم اللوجستي التي كانت في أمس الحاجة إليه.

      وكان ذلك عكس الغزو الحبشي الذي وجد له عونًا قويًا -أثناء تمزق اليمن وصراعاته الداخلية -مما ساعد على نجاحه وسقوط اليمن تحت يده.

      كذلك من محطات الوحدة التاريخية في اليمن، التي تحققت على يد (ياسر يهنعم) وولده (شمر يهرعش)، حيث تمكنا من دمج الكيانين السياسيين (سبأ وحمير) وإنهاء الجيوب الحبشية في بعض التهائم. وبعد أن ضم الملك شمر يهرعش الأجزاء المتبقية من حضرموت لقب نفسه (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة) حوالي (294م)، وبفضل هذه الوحدة السياسية شهد اليمن نهضة حضارية شاملة، حيث استفاد من حالة الاستقرار السياسي.

      وحول محطات التمزق كان أخطرها الصراع السبئي الحميري، منذ القرن الأول حتى القرن الثالث الميلادي، والذي استفادت منه الحبشة، فوسعت نفوذها على مناطق واسعة من اليمن؛ من عدن جنوبًا حتى نجران شمالًا، مرورًا بالمعافر وتهامة.

      ومع عودة الدولة المركزية الواحدة خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين، تلاشت التدخلات الحبشية، مما ساعد على استقرار الحياة السياسية وتوحيد اليمن، وعندما عادت الصراعات تدب في أوصال دولته المركزية، وبالذات في القرن السادس الميلادي، ظهر الأحباش من جديد وبقوة كبيرة. لهذا لم يستطع اليمن الصمود أمام القوات الحبشية، وسقط تحت الاحتلال، الذي استمر قرابة 75 عام.

      ومن الدروس الهامة التي تقدمها لنا لوحات القوة والوحدة في تاريخ اليمن القديم، ما عرف عن الملك أسعد الكامل أو أبو كرب أسعد، الذي تلقب بـ (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة وأعرابهم في الطود والتهائم). فهو لم يكتف ببسط نفوذ الدولة على مستوى الساحة اليمنية، بل توسع حتى وصل إلى شمال الجزيرة العربية. ويلاحظ في سيرة هذا الملك وأولاده التلاحم والاندماج التام بين حمير وحضرموت في هذه الفترة. حيث اشتركا معًا مع القوى اليمنية الأخرى بغزو شمال الجزيرة. ثم ساهما معًا – بعد أكثر من عشرين عامًا -في محاولة بناء سد مأرب مرة أخرى حوالي (499م).

      وبتوحد سبأ وحمير وحضرموت ويمنت (السواحل الجنوبية) وتهامة أصبح اليمن موحدًا، خضع لسلطة مركزية واحدة، عاصمتها ظفار (بالقرب من يريم). فشهد مرحلة استقرار ورخاء. واهتمت الدولة بتطوير الزراعة، وبناء القنوات والسدود والمصارف المائية، وازدهرت حركة التجارة. وبلغت أوج ازدهارها في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي. على أن آخر ملوك حمير كان (يوسف ذو نواس)، الذي لقب نفسه بـ (ملك جميع القبائل)، وبعد هزيمته أمام الأحباش رزح اليمن تحت الاحتلال الحبشي، وعمت بعد ذلك الصراعات العنيفة، وغلب عنصر البداوة على كثير من مناطق اليمن. وبسبب التمزقات الداخلية والأطماع الضيقة للزعامات المحلية.

         عظم نفوذ فارس والروم -الدولتين الكبيرتين آنذاك-في اليمن، إضافة إلى الحبشة، الشيء الذي أسقطه في حالة من الانهيار الحضاري، نجم عنه انعدام الوثائق والمصادر التاريخية المساعدة للباحثين. واستمر الحال حتى استعاد وحدته ودوره العالمي، بقدوم آخر الرسالات السماوية إلى الأرض "الإسلام".

 

     وحدة اليمن ودورها العالمي في ظل الإسلام:

     قبل ظهور شمس الإسلام كان اليمن يعيش حالة الانقسام والتمزق؛ إذ كان جزء منه يخضع لحكم الأذواء والأقيال والزعامات المحلية، كما كان كل شيخ قبيلة يتمتع بنفوذ "شبه مستقل"، إضافة إلى وجود بقايا نفوذ للفرس في مناطق محددة. ومما ساعد هذه الحالة وجود التمزقات الفكرية والعقائدية، التي يمتد وجودها إلى ما قبل ظهور الإسلام، حيث تواجد في اليمن جميع الديانات السماوية، إضافة إلى الوثنيات المختلفة.

      أعتنق أهل اليمن الإسلام دون قتال يذكر، بفضل السياسة الحكيمة التي اتبعها معهم رسول الله ﷺ، إلى جانب استعدادهم النفسي والروحي للتوحيد بالله عز وجل. شكلت بداية الدعوة لهم الرسالة التي وجهها الرسول ﷺ، إلى باذان حاكم صنعاء الفارسي ردًا على رسالته التي أرسلها إليه، بأمر من كسرى فارس. دلت هذه الخطوة على حنكة الرسول ، ومعرفته التامة بمخاطبة النفوس؛ فالإسلام لا يطلب ملك أحد، وبالتالي لا ينزعه من أحد، فلا يهين حاكم أسلم لله، بل العكس يثبت حكمه ويقره عليه. أخبر النبي رسل باذان: "إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء". كما أخبره أن كسرى أبرويز قتله ولده شيرويه. فعاد الوفد برسالة قال عنها باذان عندما أخبره الرسولان بها: "والله ما هذا بكلام ملك". ولم يلبث إلا قليلًا حتى أتت الأخبار من فارس تؤكد ما أخبر به النبي ، فأسلم باذان وولي من النبي وآليًا على عموم اليمن. وهذا الدرس يؤكد أن الصراع السياسي على المناصب ليس من وسائل الإسلام ولا من أهدافه، فهو يقوم على تحقيق المنهج الرباني، وليس الأطماع الشخصية.

     ولما توفي باذان قسمت اليمن إداريًا إلى ثلاثة أقاليم رئيسية، هي: (صنعاء، والجند، وحضرموت) على أن التقسيم الإداري لليمن اختلف بعد ذلك باختلاف السياسة التي كان يتبعها خلفاء الدولة الإسلامية.

      لم يكتف النبي  بإسلام باذان في صنعاء، لكنه اتبع أسلوبًا دعويًا راقيًا، حيث أرسل إلى مختلف القبائل والقوى اليمنية الرسل يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد؛ فبعث على سبيل المثال المهاجر ابن أبي أمية إلى حمير في السنة السابعة للهجرة، وعندما لم يسلم أحد من ملوكها عاود الكرة مرة أخرى، فأرسل كتابًا مع مالك بن مرارة الرهاوي (من أهل اليمن)، الذين أسلموا على يده هذه المرة. كذلك وجه علي بن أبي-طالب كرم الله وجهه-إلى اليمن في السنة العاشرة للهجرة، الذي وصل إلى مشارف اليمن، أجتمع به أهلها، الذين سمعوا بقدومه، وصلى بهم الفجر، وقرأ عليهم دعوة النبي لهم بالإسلام، فأسلمت همدان في يوم واحد، وتتابع بعدها أهل اليمن على الإسلام. وعندما علم النبي  بإسلام همدان، سجد لله شكرًا. حيث أعتبر ذلك فتح عظيم للإسلام.

      كانت الوحدة والاستقرار وما نتج عنهما من والرفاه والمشاركة في الفتوحات الإسلامية، هي السمات البارزة التي طبعت على اليمن وأهله طيلة العهد النبوي، والخلافة الراشدة. فيما عدا فترات قصيرة شهدت ما عرف بحركات "الردة"، التي قام أهل اليمن أنفسهم بالقضاء عليها، بعد استلامهم رسائل من النبي  أثناء حياته.

     كانت اليمن موحدة سياسيًا طيلة عهد بني أمية؛ التابعة للدولة المركزية الإسلامية. وعندما غلب الخوارج على اليمن-أواخر العصر الأيوبي-كان موحدًا أيضًا تحت حكم طالب الحق (عبد الله بن يحيى) الذي حكم فترة من الزمن، قبل أن يُقتل، وتعود البلاد إلى حظيرة الدولة المركزية.

    وحتى عندما أقام بنو العباس دولتهم على أنقاض الدولة الأموية كان اليمن موحدًا، وضمن العائلة الإسلامية الكبيرة، فكان الخليفة العباسي يرسل إليه واليًا والحجاز، وأحيانًا إليه فقط. وحتى لا ينفرد شخص واحد بالبلاد، كان يبعث واليًا للحكم، وآخر للجباية.

      على أن اليمن-كما كان الوضع في عهد بني أمية-لا تستقر فيه الأوضاع إلا إذا توفر له ولاة عادلون مثل: (محمد بن برمك)، الذي حكم بالعدل زمن الرشيد، وخفف عن الناس ثقل الجباية، وأصلح قنوات الري، وضبط الأمن والنظام، وبذل جهدًا في رفع المظالم على الناس، حتى استقرت البلاد وازدهرت أحوالها. وعندما ولي بعده حماد البربري، وظلم الأهالي، واستخدم القسوة والغلظة معهم، قامت الثورات والقلاقل السياسية والفتن، التي استمرت ما يقرب التسع سنوات.

      وهذه من الدروس التاريخية الهامة التي تكررت في تاريخ اليمن، حث لا يستقر إلا بالعدل. ولهذا لم يلبث في العصر العباسي الثاني أن قامت الدول المستقلة عن الدولة المركزية، التي لم تعلن انفصالها تمامًا عن الخلافة الإسلامية، بل استمرت في شكلية الانتماء لها، سواء من الناحية السياسية أو الدينية. وبعضها استقل كليًا عن الدولة المركزية، مثل الدولة الزيدية أو الصليحية.

 

     الدولة الزيادية (205 هـ – 403 هـ):

      أسسها محمد بن زياد والي العباسيين في اليمن، حيث اختط مدينة زبيد عام 204 هـ، وجعلها عاصمة له، وامتد حكمه إلى سائر البلاد، فملك الجبال والتهائم حتى حضرموت وديار كندة والشحر ومرباط وأبين ولحج وعدن إلى حلي، وملك من الجبال الجند والمعافر وصنعاء وصعدة ونجران وبيحان. ظل أمراء هذه الدولة طوال سنوات حكمهم لليمن موالين صوريًا للدولة العباسية، يذكرون أسم خليفتها في الخطبة وينقشونه على النقود. [27] وكان امتداد سيطرتهم واستقرارها يخضع حسب قوتهم والسياسة التي يستخدمونها. ولأسباب متعددة خرجت بعض مناطق اليمن عن هذه السيطرة. حيث قامت في صعدة دولة الأئمة الزيدية وفي صنعاء دولة بني يعفر الحواليين. ولكن عندما كان يتوفر أمراء أقوياء لهذه الدولة كان يستعاد توحيد معظم اليمن تحت ظل حكمهم كما في عهد الحسين بن سلامة الذي أعاد قوة حكم الدولة الزيادية.

 

     الدولة الصليحية:

     كانت العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي موحدًا للأمة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، فساهم ذلك في وحدة اليمن والعالم الإسلامي في دولة واحدة استمرت طيلة عدة قرون، على أنه نتيجة اتساع الأخير وتنوع فهم الأفراد وعقلياتهم في معرفة مفاهيم الدين الإسلامي الحنيف أدى إلى انتشار العديد من المذاهب الدينية، وعلى الرغم من تعددها إلا أنها ظلت هي الموحدة لهم، فلم يوجب هذا التعدد الاختلاف عليه، بل جعل اجتهادًا في مجال الدين. ولكن هذه الوحدة السياسية والدينية لم تستمر، حيث حدث الانقسام لأسباب متعددة، منها تعدد رؤية المسلمين السياسية، ومن ثم دخولهم في صراعات وحروب دامية ضد بعضهم البعض حول ذلك، فأدى إلى تفككهم وتخلفهم وضعفهم، ومما ضاعف ذلك إغفال ساسة المسلمين لمبدأ الشورى والانفراد بالقرار والحكم.

    لا يعد التعدد المذهبي في الفروع ضعفًا أو خللًا وثلمة في الإسلام، بل هو من قوته وعظمته، وقدرته على احتواء الاختلافات البشرية. الإشكالية هي في الأطماع السياسية، والأهواء والنزعات، التي تخلق لنفسها الطابع المذهبي، لاكتساب شرعية الحكم أو المطالبة به. الشيء الذي تسبب في الحروب والنزاعات بين المسلمين. أما المذاهب الفقهية فهي مناهج استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، والتي تعد ضرورة علمية، لا تحتاج إلى التعصب والتشدد. وعلى ذلك فالصراع لم يكن سببه الخلاف المذهبي الديني بل كان سببه الخلاف السياسي حول السلطة؛ الخلاف الذي تحكمه الأهواء الشخصية. فبقي اليمن موحدًا حضاريًا وثقافيًا وفكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا، إلا أن الخلاف السياسي ظل قائمًا لا يختفي إلا أمام الدولة القوية، التي تستطيع فرض سلطانها وهيمنتها بالعدل لا بالظلم. بغض النظر عن المذهب الديني الذي تنتمي إليه.

     في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري ظهر علي بن محمد الصليحي معتنقاً للمذهب الشيعي الإسماعيلي ومؤسساً للدولة الصليحية وموحداً سياسياً من جديد لليمن. ويعود السبب الرئيس لقيام هذه الدولة إلى القدرات الشخصية، والإمكانات الفردية الهائلة التي كان يتمتع بها الصليحي، مثل: الذكاء، والشجاعة، والشهامة، والتواضع، والتسامح، والعفو، والكرم، إضافة إلى الفصاحة، والبلاغة، وكل هذه صفات يحبها ويقدرها أهل اليمن، ومن العوامل المساعدة له زواجه من السيدة أسماء ابنة عمه شهاب، وهي شاعرة وأديبة، لم تكن مجرد زوجة منعزلة بل كانت تشارك زوجها بالرأي الراجح والمشورة في شئون نشر الدعوة الإسماعيلية وفرض سلطانه على بلاد اليمن، حتى قيل عنها أنها وزيرة غير رسمية لزوجها.

     تمكن الصليحيون من توحيد اليمن بعد سلوك سياسي محنك مع البعض ونزاع عسكري مع البعض الآخر، لكنه استخدم العفو والإكرام والصفح عن مخالفيه من المناهضين له. كما فعل مع أبو النور جهور الذي سلم نفسه للصليحي فعفى عنه ثم أطلق سراحه. وكما فعل مع الشريف الفاضل الذي ذهب إليه لتسليم نفسه فلما اقترب من الصليحي نهض لاستقباله، وأكرمه وعظمه ثم عفى عنه، كذلك كان الحال مع الأشراف الزيدية الذين أشهروا سيوفهم ضده، فعاملهم معاملة طيبة كما فعل مع جعفر بن القاسم العياني وأبنائه، الذين قادوا حملات متتالية ضده، مع جمع كبير من القبائل، وعندما انتصر عليهم الصليحي أخذهم أسرى معه إلى صنعاء. فأكرمهم بها دون عقابهم بشيء، بل عفا عنهم جميعًا وأطلق سراحهم، كذلك كان يتعامل مع الذين لم يحاربوه ودخلوا في طاعته سلمًا فكان يستعين بهم ويبقيهم على سلطانهم نوابًا له، مثلما فعل مع بنو معن في عدن، حينما أبقاهم على حكمهم. وذلك ليتجنب دخوله في الحرب مع جميع القوى اليمنية. ولكي يطمئن الآخرون حتى يسلمون بالطاعة حفاظًا على سلطانهم دون قتال. وبذلك دخل في الدولة الواحدة عدن ولحج وأبين الشحر وحضرموت دون قتال.

     كذلك لم يتعصب الصليحي لمذهبه الإسماعيلي، فقد عامل أهل المذاهب الأخرى بالتسامح الديني فترك لهم حريتهم المذهبية في ممارسة شعائرهم وفقًا لمذاهبهم، كما فعل مع أهل زبيد، وهذا التصرف يدل على عظمة أهل اليمن ويدل أن الاختلاف المذهبي لم يكن سببًا للحروب والصراع، إنما هو الاختلاف السياسي والطموحات الشخصية.

     ومن السياسات التي أتبعها الصليحي لتأسيس الدولة، أسلوب المكاتبة مع رؤساء القبائل اليمنية، بالانضمام إليه وعدم الدخول معه في صراع وعدم مناصرة أعدائه، مستميلًا لهم بالأموال أو السلطة على مناطقهم، كما فعل مع بعض قبائل اليمن الأخرى. واتبع أيًضا أسلوب أخذ الرهائن من القبائل اليمنية التي كانت تحاربه ثم أنتصر عليها. بل كذلك أخذ الرهائن من القوى السياسية المختلفة، بهدف حماية الدولة من الانشقاقات والفتن، وخوفًا من الخروج عن الطاعة وتدمير الدولة.

     كما كان حريصًا على نشر العدل في دولته وتأمين المواطنين من حكامهم. فكان يجمع ولاة الأقاليم في اليمن من حين إلى حين، ويعظهم، ويحثهم على رفع الظلم والجور عن الناس، ويحذر من مغبة إلحاق الضرر والأذى بالمواطنين، ويظهر غضبه من الظالم وأهله. وقد أدت هذه السياسة المستنيرة إلى استتباب الأمن والنظام في عهده، وأدى إلى تحسن الأحوال الاقتصادية، والرخاء في عموم البلاد.

    لقد مثل قيام الدولة الصليحية نموذجًا رائعًا في توحيد اليمن في دولة واحدة، امتد نفوذها حتى الحجاز شمالًا. إلا أنه بعد مقتل علي بن محمد الصليحي عادت الإنقاسمات من جديد، على أن ولده المكرم تمكن من قيادة الدولة من بعده باقتدار وقوة كبيرة، ورغم ذلك لم يمنع من ظهور الدويلات المستقلة مثل دولة بني زريع في عدن، والنجاحيون في تهامة، وبنو حاتم في صنعاء، وكلها نزاعات سياسية ليس لأهل اليمن فيها ناقة ولا جمل، إلا سفك الدماء وخسارة الاقتصاد.

 

     وحدة اليمن في ظل الدولة الأيوبية:

     عندما قيض الله للإسلام والمسلمين القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس من الصليبيين كان في أمس الحاجة إلى توحيد العالم الإسلامي أولًا، أو ما يمكن توحيده من العالم العربي والإسلامي آنذاك. وبالفعل فقد تمكن صلاح الدين الأيوبي قبل مواجهة الصليبيين في معركة حطين من توحيد مصر الشام وشمال العراق واليمن والحجاز في دولة واحدة، أستطاع بعدها من مواجهة الصليبيين وهزيمتهم في حطين، ثم استرداد بيت المقدس.

     وقد تضافرت عوامل عديدة لصنع هذا الانتصار، أهمها الوحدة السياسية بين هذه المساحة الواسعة من بلاد العرب والمسلمين والتي استطاع أن يحققها صلاح الدين الأيوبي.

    كان اليمن ولا يزال يمثل حجر الزاوية في كل دولة إسلامية مركزية. وكان يتمتع بموقع إستراتيجي هام يسيطر على طرق التجارية البحرية العالمية. كما كان يحقق عمقًا إستراتيجيًا، وإطلالة مباشرة على الأراضي المقدسة وعلى البحر الأحمر، كما أنه لا يمكن قيام دولة إسلامية مركزية بدون اليمن. ولكل هذه الأسباب أرسل صلاح الدين الأيوبي أخوه تورانشاه للسيطرة على اليمن (569هـ/1174م) وتوحيدها تحت الحكم الأيوبي. وتمكن بالفعل من السيطرة على حرض وزبيد وتعز الجند وعدن وذمار وصنعاء. وقد ساعد تورانشاه في الانتصار على القوى السياسية المختلفة في اليمن آنذاك عدة أسباب، منها: قدرات الجيش الأيوبي القتالية من حيث التدريب والانضباط، والنظام والخبرة، واصطحاب المعدات والآلات الحربية، مثل: المجانيق والسلالم وغيرها. إضافة إلى التمزق السياسي والعسكري الذي كانت تعيشه اليمن آنذاك.

    ولكن تورانشاه لم يلبث أن غادر اليمن وترك فيها نواب له انشغلوا فيما بينهم بالخلافات والصراعات. فأرسل صلاح الدين إلى اليمن أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب لإنهاء هذه الصراعات من جهة وللحفاظ على البحر الأحمر من تهديد الصليبيين من جهة أخرى. حيث كان ارناط الصليبي أمير الكرك يفكر عبر النزول إلى البحر الأحمر بالاستيلاء على (مكة، والمدينة) المدينتين المقدستين لدى المسلمين، وذلك بهدف توجيه ضربة مؤلمة لصلاح الدين الأيوبي، ودولته في مصر والشام.

     تمكن طغتكين بن أيوب من بسط سيطرته على اليمن بالسلم تارة، وبالحرب تارة أخرى، فسيطر على اليمن الأسفل من بقايا الزريعيين والصليحيين، وخضعت له قبائل جنب وذمار، ثم استولى على صنعاء حيث أنهى دولة بني حاتم، ثم الجوف وصعده، كذلك ضم إلى دولته حضرموت فاستولى على شبام وتريم وغيرهما.

    وبذلك تمكن الأيوبيون من توحيد اليمن تحت نفوذهم. وقد تميز طغتكين بن أيوب بالشدة في العدل إذ تروي المصادر التاريخية أن أحد المواطنين في زبيد تعرض للظلم من قبل آمر السوق، فسافر إلى صنعاء لمقابلة سيف الإسلام طغتكين والشكوى مما لحق به من ظلم فما كان من طغتكين إلا أنه نزل إلى زبيد بعد مدة يسيرة وأعدم آمر السوق أمام أركان دولته وقال لهم هذا جزاء من يظلم الناس. بعد ذلك خاف أمراء الدولة من كل شكوى ضدهم وعم العدل والأمن البلاد. هذه القصة التاريخية التي تدل على شخصية طغتكين الشديدة إلا أنها أيضاً تنبئ أن الاستقرار والأمان هو نابع من تحقيق العدالة في البلاد.

    أثمر هذا الاستقرار في البلاد نهضة عمرانية واقتصادية وعلمية، شملت بناء الحصون، مثل: حصن تعز والتعكر وحب وخدد، وبناء الأسوار، مثل: سور زبيد وسور صنعاء، وبناء مدن، مثل: مدينة تعز والجند والمنصورة شمال الجند. وغيرها من الأعمال.

     هكذا كان سيف الإسلام طغتكين الأيوبي، من أهم الشخصيات الأيوبية التي حكمت اليمن، حيث تمكن من توحيده وحكمه بمهارة وحكمة وتعقل حتى وفاته في مدينة المنصورة قرب الجند في شوال 593 هـ/ 1197م.

 

 

 

     وحدة اليمن في عهد الدولة الرسولية:

     استمر حال الدولة الأيوبية في اليمن بين القوة والضعف، حتى ورثتها الدولة الرسولية، التي أسسها نور الدين عمر بن رسول (تـ 646هـ/1249م)، وقد اختلف المؤرخون حول أسباب تسميته برسول، إلا أنه ترجح أنه سُمي بذلك لأن والده كان رسولاً للخلفاء العباسيين في فترة من الفترات.

    مثلت الدولة الرسولية فترة من أعظم فترات الحضارة الإسلامية في اليمن، من الازدهار والوحدة والقوة والثراء العريض، حتى كانت مقصدًا للعلماء المسلمين من كل أصقاع الأرض. ساعد على ذلك عدة عوامل، كان من أهمها: تحول طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، من الطريق البري عبر آسيا وطريق الخليج العربي إلى تركز طرق التجارة عبر اليمن والبحر الحمر. وذلك بسبب ظهور التتار وسقوط الخلافة العباسية، مما سبب اضطراب طرق التجارة في تلك الأصقاع. فأصبحت اليمن محور التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، فحققت بذلك ثراءً عريضًا، استفادت منه، واستخدمته في بناء دولة واحدة، وفي تحقيق نهضة عمرانية وعلمية واسعة. وساعد على ذلك السياسة الاقتصادية الذكية التي نفذتها، حيث لم تسمح بنقل السلع والبضائع التجارية عبر البحر الأحمر سوى لأسطولها، ومنعت أي سفينة قادمة من الهند أو الصين من أن تتجاوز ميناء عدن وتعبر عبر مضيق باب المندب.

    وفي ظل هذه الدولة القوية تحققت وحدة معظم الأراضي اليمنية من ظفار عمان أقصى الشرق حتى مكة شمالًا، باستثناء بعض مناطق صعده.

    كان أبرز سلاطين هذه الدولة، هو السلطان المظفر بن منصور الذي تمتع بشخصية فذة. فكان جوادًا بذالًا للأموال، حسن السياسة، يجل العلماء والصالحين، ويتعلم منهم وهو في سدة الحكم الفقه والحديث. ويشتغل بمختلف العلوم بما فيها الطب. وعندما توفي قال عنه الإمام مطهر بن يحي خصمه السياسي. "مات التبع الأكبر مات معاوية الزمان مات من كانت أقلامه تكسر رماحنا وسيوفنا". وهذا دليل أن هذا السلطان كان يتبع سياسة الرسائل والمكاتبات والدبلوماسية الراقية لبناء الدولة.

    ويعتبر المؤسس الفعلي للدولة الرسولية وحققت في عهده أكبر توسع لها. كما شهد عصره نهضة عمرانية ضخمة من بناء المدارس والجوامع والطرقات والأربطة والخانقاوات.

    وعرف عنه العدل وحبه للرعية والإحسان إليهم ولا يكلفهم ما لا يطيقون. وكان إذا شكا أهل جهة من عامل من العمال أو كاتب من الكتاب عزله عنهم، ولا يعيده إلى تلك الجهة أبدًا خوفًا من غائلته عليهم، وكان يؤدب عماله أدبًا بليغًا، إذا ثبت منهم الظلم أو الجور. فاستقرت اليمن في عهده وحققت أعلى مستوى حضاري وتاريخي لها. وتمتعت بعلاقات خارجية ممتازة مع الصين والهند ومصر والحبشة.

 

      وحدة اليمن في ظل الدولة الزيدية القاسمية:

     تأسست دول الأئمة الزيدية أول مرة في اليمن على يد يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، حيث خرج إلى اليمن يدعوا لنفسه بالإمامة، في ظرف كانت تعاني فيها الدولة العباسية المركزية الضعف والتدهور. وفي المرة الأولى التي خرج بها عام 280 هـ، لم يجد استجابة إلى دعوته، بل وجد إعراضًا عنه فعاد إلى بلاد الحجاز.

     لكن لم يلبث أن قدم عليه وفد من اليمن يلح عليه العودة طالبين منه تخليصهم من الانقسامات والصراعات والنزاعات، التي كانوا يعانون منها آنذاك، وأن يحكم بما أمر الله به ورسوله. وبالفعل عاد الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين إلى صعدة مرة أخرى سنة 284هـ، فحكم فيها بظاهر الشرع فجبا الزكاة ووزعها على الفقراء والأيتام، ولم يلبث أن التف الناس حوله ينشدون إعادة الحياة الإسلامية إلى ما كانت عليه.

     كان الهادي يدعو إلى إقامة دولة إسلامية على المذهب الزيدي، محددًا أصول العقيدة بمعرفة الله وتوحيده والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قبول أهل اليمن لهذه المبادئ يدل على صفاء سريرتهم وصدق إيمانهم. فتمكن الإمام الهادي وأولاده من الأئمة من تأسيس دولة استمرت لأكثر من ألف سنة تتناوب فيها الأحوال من القوة إلى الضعف، ومن الضعف إلى القوة. ومرت بفترات طويلة من الحروب والتمزقات أو من الدولة القوية المركزية، التي تمكنت من بسط سيادتها على كل أرض اليمن محققة الوحدة السياسية الكاملة. وبسبب كل هذا أصبح المذهب الزيدي مكون أساسي من مكونات الشعب اليمني، حيث كان المذهب الشافعي يعمل به في اليمن الأسفل والتهائم، ويعمل بالمذهب الزيدي في اليمن الأعلى.

     ولا بد من توضيح قضية هامة، وهي أن الإشكاليات التاريخية، والنزاعات والحروب ليست بسبب الخلافات الفقهية، ولكن بسبب الخلافات السياسية، وحب السلطة، والتهافت على الرئاسة والحكم والأهواء الشخصية المدمرة على حساب البلاد والعباد، وأن التمزق ينتهي وتتوحد البلاد عندما يتم قبول الآخر والاحترام المتبادل بين مكونات الشعب اليمني المختلفة (التعايش المذهبي). كما رأينا في تجربة الدولة الصليحية على سبيل المثال، أما سياسات إلغاء الآخر أو محاولة تغييره بالقوة، فهو عامل أساسي في الحروب والدماء والنزاع. وهذه من أهم الدروس التاريخية، التي يفترض بنا فهمها والاستفادة منها. وهو أن القيادة السياسية (أي قيادة سياسية) يمكنها تحقيق الوحدة إذا تجاوزت إشكالات الخلافات المذهبية والمناطقية بين مكونات الأمة الواحدة، وقد قامت ثورة السادس والعشرون من سبتمبر ضد الاستبداد وحكم الفرد، ولبناء مجتمع المساواة والأخوة والمحبة بين الجميع دون تمييز.

     كان ظهور الزيدية في منطقة صعدة بالذات من العوامل المساعدة على حمايتها، إذ أسهم البعد المكاني وظروفها الجبلية الوعرة على جعلها بعيدًا عن متناول الدول اليمنية المختلفة. وكان أئمة الزيدية يحتمون بقمم الجبال وشعابها مؤقتًا عند انكماش نفوذهم، ثم يجددون محاولاتهم توسيع رقعة حكمهم. وبسبب ذلك كانت انتصارات الدول التي حكمت اليمن على الزيدية مؤقتة وغير حاسمة. وخاصة أن قبائل هذه المناطق عرفت بشدة البأس والقوة على القتال.

    وتعتبر الدولة القاسمية التي أسسها الإمام القاسم بن محمد امتدادًا لحكم الأئمة الزيدية وبداية لحكم الأسرة القاسمية.

    ساعد القاسم على قيام دولته عدة أسباب وعوامل، منها ما تمتع به من صفات شخصية، مكنته من القيادة، مثل العلم والشجاعة والحكمة والصبر، حيث خرج من صنعاء منسحبًا من قبضة الحكم العثماني إلا بلاد الشرف في 1006هـ/1597م، مهيئًا نفسه للظهور، وبدأ يبث الرسائل إلى مشايخ القبائل وأعيانها لمناصرته في دعوته ولرفض الحكم العثماني، ونتيجة لتذمر هذه القبائل من السطوة العثمانية من الظلم بدأت بالاستجابة له.

    كذلك من العوامل المساعدة له التمردات القبلية العنيفة، التي انتابت عدد من المناطق في اليمن ضد الحكم العثماني، الشيء الذي ساهم في تشتيت المجهود الحربي العثماني.

    مرت جهود القاسم بعدة مراحل بين الضعف والقوة، فكانت القبائل أحيانًا تلتف حوله، وأحيانًا أخرى تتخلى عنه نتيجة الضغط العثماني، فيضطر إلى عقد صلح مع العثمانيين، لتحسين موقفه وتوطيد أوضاعه.

    وبعد ثورة طويلة وقتال مرير تمكنت اليمن من إنهاء السيطرة العثمانية على أراضيها، فكانت أول ولاية عربية تخرج عن إطار السلطنة العثمانية 1045 هـ/1635م. وتمكنت الإمامة الزيدية ولأول مرة في تاريخها الطويل في اليمن من إقامة دولتها لتشمل جميع الأراضي اليمنية. ساعد على ذلك الوحدة السياسية للبلاد تحت الحكم العثماني طيلة ما يقرب من مائة عام، فكان ذلك ممهدًا لاستمرار الوحدة، تحت حكم الأسرة القاسمية.

    كان الإمام المؤيد بن القاسم الذي تحقق على يديه خروج العثمانيين، وتوحيد البلاد، يتحرى العدل في الحكم، وتمكن من ضبط أمور الدولة بفضل السياسة الحكيمة التي اتبعها. بل كان شديدًا وصارمًا مع الولاة، إذا أخلوا بواجباتهم أو تهاونوا بأعمالهم حتى ولو كانوا إخوته. وكان يطلب منهم التواضع وترك المناهي وحسن السيرة في الرعية بالعدل وترك الاستبداد والتعالي.

    والحقيقة أن الشعب اليمني – كما رأينا – لا يقبل بأقل من هذه المواصفات والخصال لحكمه موحدًا. وعندما فقدت هذه الأسرة هذه الخصال ثار عليها الشعب وأسقط حكمها.

    كما كان الإمام المؤيد لا يفضل ذوي الصلة والقربى ولا يلتفت إليهم في العطايا والوظائف. بل كانت الأفضلية لذوي الكفاءات. حتى أن ابنه الحسين اتجه إلى عمه الحسن بن القاسم يشكو إليه قلة موارده وسوء ظروفه المالية. فأمر الحسن المدفتر الخاص به بإدخاله ضمن زمرة الأمراء التابعين لولايته. وكذلك اتجه إسماعيل بن القاسم إلى أخيه الحسن يطلب مساعدته نتيجة تأزمه المالي في شهاره.

      أشتهر المؤيد بالعدل والتواضع وحسن الأخلاق، والميل إلى الفقراء ومساعدتهم، والاهتمام بالعلم والعلماء، إضافة إلى عنايته بالوظيفة الدينية، حيث كانت له مؤلفات في تصفية النفوس عن الرذائل وتزكية الأخلاق (التصوف). * وظل خلال فترة حكمه زاهدًا شديد الحرص على أموال الدولة. لا يستغلها لأغراض شخصية، أو لكسب المناصرين وإرضاء الأقرباء. ومن خلال هذه السياسة الحكيمة استطاع أن يكسب ثقة واحترام الجميع، سواء من العامة أو الخاصة، الشيء الذي ساعد على تماسك الدولة القاسمية، والوحدة السياسية لليمن والتفاف الجميع حولها. وخاصة مع التسامح المذهبي الذي أبداه ولاتها على المناطق الشافعية، ورفضهم لفتاوي التكفير والتفسيق، والسماح للشافعية بالتقدم في الصلاة في مناطقهم. وصفات العدل والصرامة في المؤيد نجدها في معظم القادة الذين تحققت على يدهم (الوحدة السياسية)، أمثال الصليحي، وطغتكين الأيوبي، والمظفر الرسولي، وهذا استقراء تاريخي مهم.

    ورغم ذلك لم تكن كل أحوال المؤيد في سلام، بل كانت تثور عليه أحيانًا بعض المناطق مثل الثورة التي قام بها علي بن ناصر في آنس. على أن الصرامة الشديدة التي أظهرها في التعامل مع حركات التمرد والاضطراب مكنته من إسكاتها، بل والحفاظ على إدارة الدولة، التي كان يخشاها كل من فكر في الخروج عنها، حتى إن كان من أفراد أسرته. كما لم تكن كل مناطق اليمن تحت حكم هذه الدولة، وإن كانوا تعاونوا فيما بينهم–الدولة القاسمية وشيخ خنفر–في مواجهة الدولة العثمانية.

      تمت الوحدة على كامل الأراضي اليمنية في عهد الإمام المتوكل إسماعيل-الذي خلف المؤيد في حكم اليمن-حيث ضمت (عدن، ومأرب، والجوف، والبيضاء، ويافع). وأتبع الإمام السياسية الحكيمة في حكمها، حيث ولى عليها أمرائها السابقون مقابل الولاء للدولة.

     أما حضرموت والمهرة، فقد انضمت إلى حكم الدولة الواحدة، من خلال التفاهم والتراسل معهم، حيث أعلنوا انضمامهم لها طوعًا دون قتال في 1065هـ/ 1655م. وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطتين هامتين:

     أولًا. من العوامل المساعدة على استقرار هذه الدولة مبدأ التعايش المذهبي الذي كان سائرًا آنذاك، حيث لم يحاول الأئمة فرض مذهبهم بالقوة. والحقيقة أن هذه كانت من سمات أهل اليمن، كما شهد لهم بذلك الرحالة الأجانب. يقول نيبور: "إن الشيعة والسنة في الأقطار الإسلامية لا يطيق بعضهم بعضًا، ولا يصلي أتباع مذهب في مساجد المذهب الآخر، إنما اليمنيون فلم تؤثر المذاهب في علاقاتهم”. وتوحي هذه شهادة عن عمق الوحدة التي تمتع بها أهل اليمن وتماسكهم، وبأن اختلافهم المذهبي لم يؤثر في ذلك.

     ثانيًا. من عوامل قيام الثورات وعدم الاستقرار، ما تبعه بعض الولاة من القوة والشدة، مثل فرض الغرامات المالية، كما حدث في ثورة ابن العفيف في يافع.

     لم يلبث أن عاد اليمن مرة أخرى للصراعات الداخلية والتمزقات، وتعرض جزء مهم منه للاستعمار الانجليزي، كما عاد العثمانيون مرة أخرى، وبعد خروجهم وقيام الثورة اليمنية ضد حكم الأئمة، وجلاء الاستعمار، استمر تمزق اليمن إلى يمنين متناحرين حتى 22 مايو 1990م.

 

     الخاتمة:

     أظهرت الدراسة بوضوح أن الوحدة اليمنية هي حقيقية التاريخ-كما سبق وأن ذكرنا-وواقع الجغرافيا وضرورة الاقتصاد والمعيشة، وأهمية الأمن والسلام.

     كانت الوحدة الحقيقية أعمق بكثير من الاختلافات السياسية، التي تعتبر مجرد قشرة خارجية للأحداث. فكان الشعب بكل ما تعنيه الكلمة موحدًا حضارياً؛ ذو عرق ونسب ودين وفكر واحد، ومصالح واقتصاد مشترك، وواحدًا في العادات والتقاليد، وفي حرية الحركة والاتصال. وما أن يتوفر لهذا الشعب القيادة الحكيمة العادلة والقوية، حتى يتوحد سياسيًا.

     شهدت البلاد في ظل الوحدة نهضة عمرانية واقتصادية ورخاء وثراء. وهذه من المسلمات التي تنتج عن توفر الأمن والسلام، وانصراف الشعب إلى الإنتاج والعمل. وعكس ذلك في فترات التمزق والتناحر والاقتتال، حيث كانت تنهك البلاد، ويعمها الفقر الاقتصادي، ويتضرر الناس من ذلك أشد الضرر. أما أسباب فترات التمزق فلعل من أهمها الدوافع الشخصية للزعامات المحلية، التي تهيأ وتصنع قابلية التمزق السياسي، أو بسبب الظلم والجور، فإن الشعب اليمني لا يقبل حكام ظلمة، لذلك سريعًا ما تتحرك الثورات إزاءهم.

 

      قائمة المصادر والمراجع:

1.     - ابن الديبع، عبد الرحمن بن علي الشيباني الزبيدي: قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، تحقيق: محمد علي الأكوع، صنعاء 2006م.

2.     - ابن المجاور، جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب: صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسمى تاريخ المستبصر، بيروت 1986م.

3.    -  ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي بن أحمد (ت 456هـ): جمهرة أنساب العرب، بيروت 2003م.

4.   -   الصائدي، أحمد قايد: المادة التاريخية في كتابات نيبور عن اليمن. [ب. د].

5.    -  صبحي، أحمد محمود: الزيدية. [ب. د].

6.  -    حماد، أسامة أحمد: مظاهر الحضارة الإسلامية في اليمن في العصر الإسلامي، الإسكندرية 2000م.

7.    -  الجرو، أسمهان سعيد: التاريخ السياسي لجنوب شبه الجزيرة العربية، اليمن القديم، أربد 1996م.

8.    -  الأهدل، بدر الدين الحسين بن عبد الرحمن: تحفة الزمن في تاريخ اليمن، بيروت 1986م.

9.    - الخزرجي، أبو الحسن علي بن الحسن: العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك، صنعاء 1981م.

10-  الخزرجي، علي بن الحسن: العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، القاهرة 1911م.

11-  الخزرجي، علي بن الحسن: الكفاية والأعلام. [د ن].

12-  السجل الرسولي المسمى نور المعارف، تحقيق: محمد عبد الرحيم جازم، صنعاء، 2003م.

13-  سالم، سيد مصطفى: تكوين اليمن الحديث، القاهرة 1984م.

14-  الطبري، ابن جرير: تاريخ الرسل والملوك. [ب. د].

15-  الشجاع، عبد الرحمن عبد الواحد: تاريخ اليمن في الإسلام، صنعاء 2009م.

16-  الكميم، عبد العزيز محمد: الوحدة اليمنية (دراسة سياسية في عامل الاستقرار والتحديات)، صنعاء 1996م.

17-  رعدان، عبد الكريم حسين: تصحيح أخطاء بعض اللغويين والدارسين حول لغة اليمن القديم. مجلة الإكليل، العددان 31-، 3 يناير – يونيو 2008م.

18-  الفقي، عصام عبد الرؤوف: اليمن في ظل الإسلام، القاهرة 1982م.

19-  الصليحي، علي محمد: الديانة في اليمن قبل الإسلام، الموسوعة اليمنية، ج1.

20-  عمارة اليمني، المفيد في تاريخ صنعاء وزبيد، صنعاء 1285م.

21-  بافقيه، محمد عبد القادر: تاريخ اليمن القديم، بيروت 1973م.

22-  بافقيه، محمد عبد القادر: توحيد اليمن القديم، صنعاء 2004م.

23-  السروري، محمد عبده: تاريخ اليمن الإسلامي، صنعاء 2008م.

24-  السالمي، محمود علي محسن السالمي: محاولة توحيد اليمن بعد خروج العثمانيين الأول (1045-1097هـ/1635-1685م)، دمشق، 2000م.

25-  الوصابي، عبد الرحمن بن محمد الحبيشي: تاريخ وصاب، صنعاء 2006م.

26- يوسف محمد عبد الله أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، بيروت 1990م .

تعليقات

المشاركات الشائعة