قراءة في الدور العلمي والفكري لمدرسة حضرموت التاريخية

  

      لماذا القراءة التاريخية؟

      يقول المولى :

﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[الأعراف: 176]

     ويقول:

﴿ وَكُلاَّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ 

[هود: 120]

     يخبرنا العزيز الحكيم عن أهمية القصص، أنه تثبيت للفؤاد، وموعظة، واعتبار، وذكرى للمؤمنين، وهذا هو ملخص أهمية الدراسات التاريخية في أبعادها التربوية والدعوية؛ حيث تبدأ من ناحية البناء التربوي للإنسان، وتساهم مساهمة فاعلة وكبيرة في تربية النفوس، وتزكية العقول، وتثبيت الفؤاد، وتساعد في معرفة قدرة الله  في الأمم السابقة، وتصريفه للأيات.

﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ 

[آل عمران: 140]

      فدراسة الماضي تساعد على: فهم الحاضر، ورفع مستوى الوعي فيه، واستقراء اتجاهات المستقبل، وبالتالي المساعدة في حسن الاستعداد له؛ فالتاريخ "علم الماضي الذي يحدد الاتجاهات المستقبلية للحاضر"، وبهذا فإن أمة الإسلام في حاجة إلى رصيدها التاريخي، لتنوير مسيرتها، واستمداد عناصر بقائها، ومعرفة أصول امتدادها، لتواصل حمل مشاعل وأنوار عقيدة التوحيد

     ومن الأسباب العلمية والتربوية امتاز علم التاريخ بأهمية خاصة لدى المؤسسات العلمية في العالم، إلا أن كل مدرسة فكرية أضافت له معتقداتها وأفكارها، ومثالًا على ذلك التاريخ الإسلامي، الذي أصبح من المألوف دراسته بموجب المنهج الغربي المادي أولًا، ثم بموجب الدراسات التاريخية للإسلام والمسلمين.

      وقد بلغ من اهتمام الدوائر العلمية الغربية بذلك أنه تم إنشاء كليات وجامعات كاملة تسمى (كليات الدراسات الشرقية)، وهي مختصة بدراسة تاريخ الإسلام والمسلمين، التي لا تخلو من بث السموم والطعن فيهم، من خلال المستشرقين، بل وكذلك الكوادر العربية والإسلامية، التي تتلقى تعليمها العالي لديهم، صانعين بذلك أعاصير تريد منها اقتلاع الثوابت العقيدية والتاريخية من الجذور، واضعين التاريخ الإسلامي في قوالب وسلاسل، مقيدة له بمفاهيم ومصطلحات ونظريات مسبقة. ويطلقون على هذه القيود عبارات براقة أمثال: (المنهج العلمي للتاريخ)، و(المنهجية العلمية للتاريخ)، و(والدراسات العلمية للتاريخ)، و(فلسفة التاريخ).

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن بعض المؤسسات العلمية الإسلامية تقوم بدورها بإسقاط نظرتها المذهبية أو السياسية في دراستها للتاريخ الإسلامي، متطرفين في ذلك بين الإفراط والتفريط، ليصبح بذلك التاريخ الإسلامي ضحية عدو غاشم أو صديق جاهل، سيطر عليه التعصب والعصبية.

     كل ذلك المساس بتاريخ الإسلام والمسلمين شكل خطرًا على المرجعية التاريخية للأمة، الأمر الذي يؤكد أهمية الدراسات التاريخية، والاستفادة منها سواء لنواحي البناء التربوي والعقلي. أو حتى للنواحي التوثيقية للتاريخ الإسلامي والإنساني، أو من ناحية الواجب الشرعي في تقديم علم التاريخ بموجب المنهج القرآني والسنة النبوية، ومن ناحية مستلزمات الدعوة إلى الله.

 

     المنهج القرآني للتاريخ:

     يقوم المنهج القرآني للتاريخ على أساس النظرة الكلية الواحدة للكون. فالتاريخ يبدأ من حدث خلق الله للسماوات والأرض، ثم قصة خلق آدم وصراع الكفر ـ والإيمان بين آدم وإبليس، ليستمر السياق القرآني للتاريخ على أساس أنه صراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، ليقص علينا قصص الأنبياء والرسل، ثم يعالج فترة العهد النبوي الشريف، ويستمر الإخبار التاريخي ليخبرنا عن إعادة الخلق يوم القيامة، وانتهاء الصراع بين الخير والشر إما في الجنة أو في النار.

    في هذا الأخبار القرآني للتاريخ يتبع منهج التوثيق التاريخي.

﴿ وَجَآءَكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ ﴾

 [هود: 120]

      والوصف التاريخ:

﴿ وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ﴾

[هود: 120]

 

     ويتبع منهج تفسير الحدث التاريخي:

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾

[القصص: 14]

﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾

[العنكبوت: 39]

      ويبين هذا المنهج الكريم إن الله هو الفاعل الأول والأخير الحركة التاريخ:

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾

 [الإسراء: 16]

      فالله هو الرافع والخافض وهو المعز والمذل:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾

 [سورة الفجر: 6]

      كما يمتاز المنهج القرآني بالقدرة على الخروج من الجزئيات إلى الكليات:

﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً ﴾

[الأحزاب: 62]

     أضف إلى ذلك أن هذا المنهج عند تحليله ودراسته للحدث التاريخي، يأخذ بكافة العوامل الصانعة له، ومنها العامل الغيبي أو تدخل قوى الغيب للمساهمة في صنع الحدث التاريخي ومثال على ذلك، روايته لما حدث في معركة بدر؛ من أن الشيطان كان المحرض الأول لهذه المعركة، بهدف استئصال المؤمنين، ثم نزول الملائكة مسلحين مقاتلين مع المسلمين. هذه الرؤية التي تأخذ بالجانب الغيبي مفقودة تمامًا لدى كافة المناهج الحديثة لدراسة التاريخ.

     كما يعلمنا الإخبار القرآني والنبوي للتاريخ بأهمية العامل الفيزيائي والطبيعي. فالبيئة الفيزيائية والطبيعية المحيطة بالإنسان تتأثر وتتفاعل مع فعله؛ إن كان خيرًا بخير، أو شرًا بشر. فالكفر والإفساد يقوم بإغضاب الطبيعة بأمر ربها، والإيمان والإصلاح يحقق للمؤمن عطاء الطبيعة وخدمتها له، كما في حديث السحابة التي تسقي زرع المؤمن المتصدق. وقوله :

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ 

[الأعراف: 96]

     إن هذا المنهج الكوني الشامل لدراسة التاريخ تفتقد إليه كل المناهج المعاصرة، فأحداث الطبيعة لديهم مجرد مصادفات خبط عشواء لا علاقة لها بسلوك وفعل الإنسان. كما أنهم لا يؤمنون أو يدرسوا أي تدخل لقوى الغيب في الأحداث التاريخية.

     وبهذا فإن المنهج القرآني للتاريخ يحقق أهدافه السماوية في العظة والعبرة، وفي التربية النفسية والعقلية، وفي الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفي التنبيه لكافة العوامل الصانعة للحدث التاريخية، ليستطيع المؤمن أن يقف على بينة من أمره.

﴿ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾

[هود: 130]

 

     الدعوة إلى الله رسالة الأديان السماوية:

     إن معرفة الله عز وجل والدعوة إليه هي غاية الوجود، بل هي ميزة الإسلام (آخر الأديان السماوية)، يقول المولى ﷻ:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا 

[الطلاق: 12]

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[فصلت: 33]

﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

[آل عمران: 110]

     فالخيرية بسبب الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله، بل هو أحسن عمل وأفضل فعل، والمنهج النبوي في الدعوة إلى الله، هو قوله تعالى:

﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾

[النمل: 125]

 

     التحولات التاريخية لحضرموت:

    أسلمت حضرموت سلمًا دون حرب، وبعث النبي  أصحابه إليها، ليعلمهم الإسلام. ويحكمها منهم، أمثال زياد بن لبيد الأنصاري الخزرجي، ومعاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري وكلهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم.

      تجاوزت حضرموت فتنة الردة بفضل جهود الصحابي عباد بن بشر الأنصاري، وجهود المسلمين المخلصين من حضرموت، التي سرعان ما أصبح رجالها أبرز المساهمين في الفتوحات الإسلامية، وفي نشر الإسلام بعصره الأول، ومنهم وائل بن حجر وامرؤ القيس بن عانس في فتح العراق، وقيسية بن كلثوم في فتح مصر.

     ثم أصاب حضرموت ما منيت به بقية مناطق العالم الإسلامي، من منازعات الشقاق وخلافات الفتن، فوصل الفكر والنفوذ الأباضي إليها، وقيام الثورات وقمعها. ثم حدث تحول تاريخي كبير وهو هجرة الإمام أحمد ابن عيسى المهاجر بن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زيد العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم (ت 345هـ)، من بصرة العراق إلى حضرموت سنة (318 هـ). وكان اصطفاء حضرموت مهجرًا لهذا الإمام الكبير شهادة تاريخية أنها كانت بنظره من أفضل المناطق شعبًا وأرضًا، للارتحال إليها، والاستقرار بها.

     وكانت الهجرة للاطمئنان على سلامة دينه ودين أتباعه وأهله، وفي سبيل الدعوة إلى الله والإصلاح، وهذا ما عرف عنه في مناطق حضرموت المختلفة، الذي أدى إلى استقرار المذهب الشافعي، وفي مقابله تبدد المذهب الأباضي. فأسس بذلك أهم دعائم مدرسة حضرموت وهو منهج الدعوة إلى الله، فلم يدعو إلى نفسه، ولا إلى ملك له، ولا إلى مذهب خاص به.

     ومن التحولات في تاريخ الدعوة إلى الله، نزول الإمام خالع قسم (ت 529ه) علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبد الله بن أحمد بن عيسى المهاجر مدينة تريم، حيث خرج العلويون من عزلتهم في بيت جبير بعد أكثر من مائتين عام من نزولهم حضرموت، فاستفاد منهم أهل المدن وعرف الناس فضلهم، وتأسست مدارس العلم، ومجالس الحديث، وألتف أهل تريم حولهم. ولقد أسسوا فيها مسجد بني أحمد المعروف بـ (مسجد باعلوي).

      حمل راية منهج الدعوة إلى الله من بعد خالع قسم، ولده الإمام محمد بن علي (ت 556هـ)، المعروف بصاحب مرباط (ظفار). الذي من قوة تأثيره وإصلاحه بين الناس، ارتحلت القوافل التجارية من بيت جبير إلى ظفار تحت أمان خفارته لها، ثم سكن في مرباط ظفار، وكان فيها ينبوع العلم والإحسان والإصلاح، حيث هاجر إليها على نفس شروط الهجرة، وهي الدعوة إلى الله والإصلاح. وقد أخذ عن العلم رجال مدرسة حضرموت، منهم: شيخ الإسلام سالم بن فضل، الذي تؤكد سيرة حياته أنه كان معلم من أهم معالم مدرسة حضرموت، وهو العلم وطلب العلم. ولعل من أهم التحولات في تاريخ مدرسة حضرموت، وفي الدعوة إلى الله هو نشر التصوف الإسلامي في حضرموت على يد الإمام الفذ الفقيه المقدم محمد بن علي بن محمد صاحب مرباط (ت 653هـ).

     ولد الفقيه المقدم في ذات الفترة التي حكم بها الأيوبيون اليمن وحضرموت، والتي بدأت فيها الاضطرابات السياسية والمعارك العسكرية، وقتل العلماء والصالحين في تريم على يد حملة الزنجيلي، واستمرت هذه الاضطرابات حتى بعث الملك المسعود الأيوبي عمر بن مهدي إلى حضرموت، فكانت المنطقة سلسلة من الأحداث الدامية والعنف والفوضى الأمنية والسياسية. كل هذا يوضح أهمية اختيار الفقيه المقدم للتصوف، وأهمية تحول مدرسة حضرموت إليه وعلمه. والتصوف -كما هو معلوم -العلم النبوي لتزكية النفس، للوصول بها إلى مرتبة الإحسان. فكان هذا الخيار الحل الناجع لإنقاذ البلاد من الصراع على بقايا الدنيا والتهافت عليها. ولم يكن ذلك مقتصرًا على حضرموت فقط، حيث شكل التصوف الحل لمشاكل الأمة في شرق البلاد، وكان ذلك على يد الإمام أبو حامد الغزالي، ومن بعده الإمام عبد القادر الجيلاني. وفي غربها على يد الشيخ أبو مدين المغربي.

     والمقصود أنه كان الحل من خلال توثيق عرى اتصال الأمة بخالقها وبرسوله الكريم. فهو المدرسة النبوية الروحية لتزكية النفس وتهذيبها ومعالجتها من أخطر وهن يصيب الأمة وهو حب الدنيا وكراهية الموت.

     وكان من ثمرة ذلك صلاح الدين الأيوبي فهو امتداد لهذه المدرسة الصوفية، والذي أنشأ الأربطة في مصر وذلك قبل المعارك الفاصلة مع الصليبيين والانتصار عليهم، وكذلك في بيت القدس بعد الفتح. وفي غيرها من المدن الإسلامية. وهكذا كان كبار قادة الأمة خريجو مدارس التصوف: امثال محمد الفاتح، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائري.

     إذن كان تحول مدرسة حضرموت إلى التصوف هو ضمن خيارات الأمة الإسلامية وتحولاتها نحو الأخذ بعلم تزكية النفس والتمسك به، في ظل الظروف الخطيرة التي كانت تمر بها آنذاك. وأحكم الفقيه المقدم الملامح الأساسية لمنهج مدرسة حضرموت، في الدعوة إلى الله وتزكية النفس، فكسر السيف ودعا إلى نزعة، لينهي بقايا الجاهلية القبلية. ومن ذلك برهن على وجوب التعايش السلمي والأخوة الدينية والمذهبية بين القبائل، وأن سلاح العلم والإيمان والأخلاق هو أقوى الأسلحة في المجتمع الإسلامي، وأمضاها في قيادة الأمة، وتوجيهها إلى حياة السعادة والخير والتقدم.

     ونشير هنا أن موقف الإمام الفقيه المقدم من كسر السيف، ما هو إلا امتداد لمنهج آباءه وأجداده آل النبي . فهذا هو منهج الإمام الحسن، والإمام علي زيد العابدين من بعده، الذي رفض الاشتراك في أحداث وثورات المدينة المنورة. ومنهج ولده الإمام أحمد الباقر، الذي نصح الإمام زيد بن علي بعدم الثورة وتنبأ باستشهاده. وكذلك كان مسلك ولده الإمام جعفر الصادق الذي رفض استغلال موجة الثورة العباسية ضد الأمويين، وقال: "مالي ولأبي مسلم"، وكان الأخير القائد الفعلي للثورة ضد الأمويين. كما رفض الاشتراك وحمل السيف، في أحداث ثورة محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (رضي الله عنهم). وهكذا كان منهج البيت النبوي، ولم يحمل العلويون السلاح في حضرموت إلا في فترة محدودة، كانت تعم فيها الفوضى الأمنية النزاعات القبلية، حيث يحملوه اشتراكًا في أي صراع، إنما دفاعًا عن النفس. ولذلك عندما تخصص هذا البيت النبوي أكثر بعلم التصوف وتزكية النفس، عاد إلى منهجه الأول بترك السلاح والدعوة إلى الله، والاشتغال بالعلم.

     أثرت دعوة الفقيه المقدم في الأوساط الحضرمية إلى نزع السلاح، واعتناق التصوف، فتبعه قومه العلويين وغيرهم، إلا البادية والقليل من الجهلة.

     فأرسى دعائم السلام في كثير من المدن والقرى الحضرمية، وصرف جانبًا من أبناء الأمة عن الاشتراك في الفتن والحروب الأهلية إلى حياة العلم والثقافة والتصوف، والإصلاح والكسب الحلال، والعمل الاقتصادي بمختلف أنواعه، وأبرز ذلك الزراعة والاهتمام بها، حتى شهر عنه ذلك.

     وكان من ثمار هذا المنهج نهضة دعوية تربوية علمية في أنحاء حضرموت، قام بها حملة العلم الديني من العلويين وإخوانهم من آل أبي فضل وآل الخطيب وآل أبي هرمز وآل أبي حاتم وغيرهم، الذين نهضوا نحو الإصلاح والإيمان ونشر العلم والتعليم.

     ومن أعلام مدرسة حضرموت الأفذاذ الشيخ سعيد بن عيسى العمودي (ت 671هـ) صاحب الجاه العريض في إرساء معالم المنهج. والأمام الحافظ علي محمد بن جديد العلوي (ت620هـ) الذي بلغ درجة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة علم الحديث في اليمن. وأيضًا رابعة حضرموت سلطانه بنت علي الزبيدية (ت843هـ) التي قامت بالدعوة إلى الله، والإصلاح بين الناس وأسست رباط وحوطة. حضت سلطانة بكل احترام وتقدير القبائل المحيطة بها. والإمام عبد الله بن عمر بامخرمة السيباني الملقب بـ (الشافعي الصغير) للدرجة العلمية التي بلغها. والإمام عبد الرحمن السقاف (ت 819هـ). والإمام عمر المحضار (ت 893هـ). والإمام عبد الله العيدروس (ت 865هـ). والشيخ عبد الله بن محمد الخطيب (ت 641هـ). والشيخ عبد الله بن محمد باعباد القديم (ت 687هـ).

     والمقام هنا ليس لذكر أعلام المدرسة والمنهج، ولكن أشرنا فقط إلى أهم أعلامها الذين اعترف لهم معاصريهم بالفضل والعلم، فقال نشوان الحميري (ت 573هـ) عندما زار حضرموت أواخر القرن السادس الهجري:

رعى الله أخواني الذين عهدتهم      ببطن تريم كالنجوم العواتم

عليًا حليف النجـدة بن محمد      وأبنـاء أخيه الغرة آل حاتم

     ومن في تريم من فقيه مهذب     وسيد أهم العلم يحيى بن سالم

***

     وقول العلامة المكي الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعي (ت797هـ):

مررت بوادي حضرموت مسلمًا      فألفيتــه بالبشر مبتسمًا رحبًا

وألفيت في جهــابذة العــلى         أكابر لا يلقون شرقًا ولا غربًا

***

 

     الدور الدعوي لمدرسة حضرموت (شرق آسيا :(

    كانت الصلات والعلاقات بين العرب المسلمين وجنوب شرق آسيا قديمة. وكانت التأثيرات بينهم متبادلة، أبرزها الإسلام ونشره في الهند وشرق أسيا، والذي كان لمدرسة حضرموت الدور الأهم واليد العليا في ذلك.

     تشير الدراسات في هذا المجال إلى خروج الإمام الشريف عبد الملك بن علوي بن محمد صاحب مرباط إلى الهند. الذي لقبت ذريته في الهند وجنوب شرق آسيا (آل عظمت خان) وتعني السيد العظيم. دخل الهند في أواخر القرن السادس الهجري، وأعقب ذرية مباركة فيها من ولده الوحيد الشريف عبد الله عظمت خان، وأعقبه الإمام جمال الدين الحسين، الذي سافر من الهند إلى جزيرة سومطرة في منطقة تسمى (كميوجا) الذي دعا سلطانها إلى الإسلام وكان وثنيًا، فاعتنقه وجعل شعبه يدين به، وزوجه ابنته فخلف منها ثلاثة، كان أكبرهم الإمام إبراهيم، الذي كان العون لوالده في نشر الإسلام في جزيرة سومطرة، كما كانوا دعاه له على مدى واسع في كلٌّ من (كمبوديا وسيام).

     ومن ذرية الإمام علي الذي أسلم على يده أمير (فلمبانغ) بجاواه، الأمير آريادامار وسمى نفسه عبد الله، وولده السلطان عبد الفتاح بن عبد الله (أريادامار)، الذي أقام بالتعاون مع أولاد علي أول دولة إسلامية في جزيرة جاواه، وعندما هم بحرب الوثنيين أشاروا عليه بالاكتفاء ببث الدعاة في أرجاء البلاد.

    وكان منهم أيضًا الشريف الإمام هداية الله بن عبد الله، الذي قاد الجيوش المجاهدة ضد البرتغاليين في منطقة (سنداكلافا)، التي سماها (جاكرتا)، ومعناها النصر المبين. هزم البرتغاليين في 15 مارس 1527م، فزوجه السلطان (ترننجانا) شقيقته، وولاه على جاواه الغربية. وفي عام 952هـ استشهد السلطان (ترننجانا) في معركة مع الوثيين، وقد وصى بالملك للشريف الإمام هداية الله. وفي عام 959هـ فوض الشريف هداية الله إلى إبنه حسن الدين الإمارة في (بانتان، والشوربون) وانقطع للدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وتوفي في (فوتانغ جاتي) وقبره معروف فيها، وعليه عمود نسبه. وتم تخليد أسمه مؤخرًا، بتسميه إحدى الجامعات الحكومية باسمه (جامعة الشريف هداية الله).

     ومن الدعاة إلى الله الذين خرجوا من تريم إلى جزر الهند الشرقية (السيد حسين بن أحمد بن حسين بن محمد القدري) جمل الليل، ومؤسس هذه السلطنة هو الشريف عبد الرحمن بن السيد حسين المذكور، وقد نشر الإسلام في تلك البقاع بالحكمة والموعظة الحسنة مجاهدًا الشرك والوثنية فيها، وكان يدعوا كل من يدخل بلده إلى الإسلام الحنيف، مثل ما كان يعمل والده. كما بنى المساجد والمدارس الإسلامية، وهي حاضرة إلى اليوم في (فونتيانغ)، التي بايعه أهلها في عام 1185هـ وأسلموا طوعًا على يديه.

     ومن مدرسة حضرموت كذلك كان دور كلًا من السادة محمد بن أحمد كريشة السقاف في (جاواه)، وعيدروس بن عبد الرحمن بن علي صاحب الريضة، ومن ذريته أمراء كوبوه في جزيرة (كلمنتن)، التي تسمى اليوم "بورنيو"، حيث تولى حكمها وإمارتها عام 1129م، ووفقه الله بدخول الكثير من أهلها في الإسلام. ويوسف عبد الله العيدروس الذي نشر الإسلام في جزيرة (ساراداك) في ماليزيا، ومازالت ذريته تحكم إلى اليوم، كان منهم ملك ماليزيا في الفترة (1960 ـ 1965م).

    أما في سنغافوره فكان لآل إبراهيم السقاف دور كبير في نشر الإسلام والعلم والهدي النبوي، مؤسسين مدرسة السقاف الإسلامية بها. وكذلك محمد بن سالم بن أحمد حسن العطاس مؤسس مسجد باعلوي، ومدرسته في سنغافوره.

     والإمام الداعية إلى الله عيدروس بن سالم الجفري في (فالو) وجزيرة (سولاويسي)، الذي أسس مدارس الخيرات الإسلامية، والإمام العلامة الحبيب محمد بن أحمد المحضار في (بندواسه) و(سورايابا)، والسيد شيخ بن أحمد الهادي في (ملقا) بماليزيا، والسيد علي بن حسين بن أحمد عيديد بالفلبين. ولم تكن إسهاماتهم فقط نشر الإسلام؛ إنما أيضًا ساهم علماء حضرموت في نشر مذهب الإمام الشافعي في أندونيسيا.

      أما بالنسبة للفلبين، تذكر المصادر أن الإسلام وصل لها على أيدي سبعة اخوة من العرب، الذين قدموا من شبه جزيرة العرب، وكان أشهرهم أبو بكر، الذي وصل عام 1450م تقريبًا، ويلقب (فدوكا مهاساري مولانا سلطان شريف الهاشمي)، كما كان من أحد السبعة السيد علي الفقيه ناشر الإسلام في جزيرة (تاوي تاوي) وغيرها. ويقع في جزيرة (جولو) ضريح لأحد هؤلاء الدعاة العرب، يعود تاريخه إلى 710هـ.

      يذكر أن العرب السابقين كانوا لا ينسجمون مع السكان الأصليين لجزر الهند الشرقية؛ إلا بعد أن جاء السادة العلويون من حضرموت، فكان لهم مقام ومكانة، وامتزجوا بالأهالي، وسعى آخرون منهم في ابتعاث الشبان إلى مكة المكرمة.

      وتشير كذلك بعض الروايات إلى أن أول دخول للإسلام إلى الفلبين كان على يد الشريف حسن بن علي -الذي ينتهي نسبه إلى أحمد بن عيسى المهاجر-حيث نشره في (بوايان) وأسلم ملكها، وتزوج ابنته، وساعده على نشر الإسلام في (مين دانوه، وميقندانوا، وسيبو، وسولد، وكوتاباتو، وتمراروا) وغيرها. ويقال إن كل الذين تعاقبوا على حكم السلطنة بعده كانوا من سلالته.

 

     الدور الدعوي لمدرسة حضرموت في شرق أفريقيا:

    كان لمدرسة حضرموت دور دعوي متميز في أفريقيا، ساعد على انتشار الإسلام وتوسيع رقعته-شمل كلاً من: (كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، وجزر القمر، ومدغشقر، والحبشة، والصومال، وزائير، والكونغو) حققته الأسر المنتمية للسادة آل باعلوي، أمثال: اسرة آل السقاف، وآل الشيخ أبي بكر بن سالم، الذين نزلوا سواحل الحبشة وكينيا في القرن التاسع الهجري، ولحقهم بعد ذلك (آل جمل الليل) في أوغندا ولاموا وجزر القمر. حتى أن تلك الأسر بلغت جزائر (تحت الريح) الواقعة في بحار أمريكا، قبل أن يعرفها البرتغاليون.

 

     الدور الدعوي لمدرسة حضرموت في اليمن:

    قامت مدرسة حضرموت بدور دعوي بارز داخل اليمن وخارجها، ونماذجًا على ذلك: ما حققه الإمام أبي بكر العدني (ت914هـ) في عدن، حيث بتخرج على يده العديد من العلماء والدعاة، ولم يلبث أن تحول مسجده إلى رباط للعلم والتعلم حتى اليوم. والدور الذي قدمه الإمام عيدروس بن شهاب الدين السقاف ابن صاحب الوهط، الذي أخذته المنية وهو يدعو إلى الله في أحد ضواحي مدينة صنعاء، فأصبح له هناك ضريح، واعترف له أهل المكان بالولاية رغم اختلاف المذهب الفقهي، وأصبح لهم فيه حسن الظن والمعتقد الجميل. ونموذج الحبيب محمد الهدار، مؤسس رباط البيضاء، الذي كان منارة العلم والعلماء في زمن المد الماركسي.

 

      الخاتمـــــــــة:

     ندرس الماضي حتى نفهم الحاضر، ونستشف المستقبل، وأن نعرف سنن الله في الذين خلو من قبل، حتى نتفكر ونتعظ ونعتبر، ونقتدي بأهل الاقتداء. فوجود القدوة ضرورة في عملية البناء النفسي والمعنوي للشخصية الإنسانية.

     وقصة التاريخ بالمفهوم القرآني هي حكاية الصراع بين الإيمان والكفر، والخير والشر، والحق والباطل، بين المدرسة الأبوية التي يمثلها آدم عليه السلام وأنبياء الله من بعده، والمدرسة الأنوية التي يرأسها إبليس وجنوده ومن تبعهم " أنا خير منه ".

تعليقات

المشاركات الشائعة